Kamis, 11 September 2014

خطبة الجمعة في المسجد الحرام بمكة المكرمة لفضيلة الشيخ : أسامة خياط بتاريخ : 16- 1-1426هـ وهي بعنوان : من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه

بسم الله الرحمن الرحيم
خطبة الجمعة في المسجد الحرام بمكة المكرمة
لفضيلة الشيخ : أسامة خياط
بتاريخ : 16- 1-1426هـ
وهي بعنوان : من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه

الحمد لله الذي أكمل لنا الدين وأتم علينا النعمة، أحمده سبحانه رضي لنا الإسلام دينًا وجعلنا خير أمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً تكون لمن استمسك بها خير عصمة، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله، بعثه للعالمين رحمة، اللهم صلِّ وسلم عليه وعلى آله وصحبه صلاةً تكون لنا نورًا في الدُجى والظُلمة.
أمّا بعد:
فيا عبادَ الله، اتَّقوا الله فتقوى الله خيرُ زادٍ في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد،  يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ   إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [الشعراء:88، 89].
أيّها المسلِمون، إنّ حرصَ المرءِ على سلامةِ دينه وحسنِ إسلامه وصِحّةِ إيمانه دليلٌ ظاهر وآية بيِّنة وبرهان شاهدٌ على رجاحةِ عقلِه واستقامة نهجِه وكمالِ توفيقِه، فدينُ المسلم ـ يا عبادَ الله ـ هو دليلُه وقائده إلى كلِّ سعادةٍ في حياته الدّنيا وإلى كلِّ فوز ورفعةٍ في الآخرة بما جاءَ فيه من البيِّنات والهدى الذي يستعصِم به من الضّلال وينأَى به عن سبلِ الشقاءِ ومسالك الخيبةِ والخسران.
ولقد أرشَدَ رسول الله   وهو الحريصُ على كلِّ خير لأمّته الرؤوفُ الرحيم بها، أرشد إلى أدبٍ جامع وخَصلة شريفة وخلَّة محمودة وخُلُق كريم يحسُن به إسلام المرء ويبلُغ به الغايةَ من رضوان الله، وذلك ما جاء في الحديث الذي أخرجه الترمذيّ وابن ماجَه في سننهما وابن حبانَ في صحيحه بإسنادٍ حسن عن أبي هريرةَ -رضي الله عنه- عن رسولِ الله   أنه قال: ((مِن حُسن إسلامِ المرء تركُه ما لا يعنيه)).
وهذا الحديثُ ـ كما قال الإمام الحافظُ ابن عبد البر رحمه الله ـ مِنَ الكلام الجامِع للمعاني الكثيرةِ الجليلة في الألفاظِ القلِيلة، وهو مما لم يقُله أحد قبلَه  ؛ لأنَّ مَن حسُن إسلامه ترَك ما لا يعنيه من الأقوالِ والأعمال، إذِ الإسلامُ يقتضي فعلَ الواجبات وتركَ المحرمات، وإذا حسُن الإسلام استَلزَم ذلك تركَ ما لا يَعني من المحرَّمات والمشتبِهات والمكروهات وفضولِ المباحات وهي القدرُ الزائد على الحاجةِ، فإنَّ هذا كلَّه لا يَعني المسلمَ إذا كمُل إسلامه وبَلغَ درجةَ الإحسان الذي أوضَحَ رسول الله   حقيقتَه في حديث عمرَ بنِ الخطاب -رضي الله عنه- في سؤال جبريلَ عليه السلام عن الإسلام والإيمان والإحسان، فقال: ((أن تعبدَ الله كأنّك تراه، فإن لم تكُن تراه فإنّه يراك)) أخرجه مسلم وغيره، ومَن عبَد الله على استحضار قُربِه من ربِّه أو قربِ ربّه منه فقد حسُن إسلامه، ولزِم من ذلِك أن يترك كلَّ ما [لا] يعنِيه في الإسلامِ واشتَغَل بما يعنيه من صحّةِ اعتقادٍ وكمال إيمان وصلاحِ عملٍ وطَلَب ما هو من ضروراتِ معاشه لا قيامَ لحياته بدونِه مِن ألوانِ المباحات، وعلى العكسِ مِن ذلك من أضاعَ نفائسَ الأوقات فيما لم تُخلَق له باشتِغاله بما لا يَعنيه، فانصَرَف به عمّا ينفعه ويرتفِع بمقامِه ويبلُغ به صحيحَ الغايات وشريفَ المقاصد وكريمَ المنازِل، فخسِر هنالك خسرانًا مبينًا.
ألا وإنَّ من اشتغال المرءِ بما لا يَعنيه تعلّمَ ما لا يهمّ من العلومِ وتَركَ الأهمِّ منها مما فيه صلاحُ قلبه وتزكيةُ نفسه ونفعُ إخوانه ورَفعُ شأن وطنِه وأمّته، ومنه أيضا عدَمُ حِفظ اللسان عن لغوِ الكلام وعن تتبُّع ما لا يهمّ ولا ينفَع تتبُّعه من أخبار الناسِ وأحوالهم وأموالهم ومِقدارِ إِنفاقهم وادِّخارهم ومن إحصاءِ ذلك عليهم والتنقيبِ عن أقوالهم وأعمالهم داخلَ دورهم وبين أهليهِم وأولادهم، بغَير عرضٍ شرعيّ سِوى الكشفِ عمّا لا يعني من خاصِّ أمورهم وخفيِّ أمورهم.
ومن ذلكَ أيضًا ـ يا عبادَ الله ـ تكلُّمُ المرء فيما لا يحسِنه ولا يتقنه ممّا لم يعرَف له تخصّصٌ فيه ولا سابِق إلمامٍ أو خِبرة به، ولم يكن مطلوبًا منه التحدُّث أو إبداء الرأيِ فيه، وما ذلك إلاّ لطلبِ التسلِّي وإزجاءِ الوقتِ وإضاعتِه وتصدُّرِ المجالس وصرفِ الأنظار إليه، وقد يخرُج به ذلك إلى الخوضِ فيما لا يجوز الخوضُ فيه من أحاديث الفواحشِ والشّهوات ووصفِ العورات وقذفِ المحصَنات المؤمناتِ الغافلات ونشرِ قالَةِ السوءِ وبَثِّ الشائعاتِ والأكاذيب والأخبارِ المفتَريَات، وقد يجتَمع إلى ذلك وَلعٌ بما يسمَّى بالتّحليلات والتوقُّعات المبنيَّةِ في غالبها على الظنونِ والأوهام، وكلّ ذلك ممّا لا يصحّ تتبُّعه ولا الخوض فيه ولا الاستِنادُ إليه ولا الاغتِرار به ولا العمَلُ بمقتضاه.
ألا وإنَّ مما يعين على تركِ المرء ما لا يَعنيه تذكّرَ أنَّ الواجباتِ أكثرُ من الأوقات وأنَّ العمرَ قصير كما أخبر بذلك رسول الهدَى   في الحديثِ الذي أخرجَه الترمذيّ وابن ماجه في سننِهما والحاكم في مستدركه بإسنادٍ صحيح عن أبي هريرةَ وأنسٍ رضي الله عنهما عن النبيِّ   أنه قال: ((أعمارُ أمّتي ما بين السّتِّين إلى السّبعين، وأقلُّهم من يجوز ذلك)). فمِثل هذا العُمر الذي لا يكاد يتَّسِع لما يلزَم ويجِب ـ كما قال بعض أهل العلم ـ أفيَتَّسع للفضول وما لا يعني؟!
والمرءُ أيضًا مسؤول عن عمُره: فيم أفناه؟ كما جاء في الحديث الذي أخرجَه الترمذيّ في جامعه بإسناد صحيحٍ عن أبي برزَةَ الأسلميّ -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله  : ((لا تزول قدَما عبدٍ يومَ القيامة حتى يسألَ عن عمره: فيمَ أفناه؟ وعن عِلمِه: ما فعل فيه؟ وعن مالِه: من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟ وعن جِسمه: فيم أبلاه؟)).
ومَا يلفِظ الإنسان من قولٍ إلاّ وهو مسطَّر في صحائِفِه مجزيٌّ به؛ ليعلَمَ أنّ للكلمة مسؤوليةً وتَبِعَة كما قال عزّ من قائل:  وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ   إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنْ الْيَمِينِ وَعَنْ الشِّمَالِ قَعِيدٌ   مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:16-18]. وظاهِرُ الآيةِ ـ كما قالَ العلاّمة الحافظ ابن كثير رحمه الله ـ أنّ الملَكَ يكتب كلَّ شيءٍ من الكلام، ويؤيِّده عمومُ قوله سبحانه:  مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ ؛ إذ هو شاملٌ لكلِّ قول.
وقد أخرَج مالك في الموطّأ وأحمدُ في مسندِه والترمذيّ والنسائيّ وابن ماجه في سننهم بإسنادٍ صحيح عن علقمةَ الليثيّ عن بلال بن الحارث -رضي الله عنه- أنه قال: قال رسول الله  : ((إنّ الرجلَ ليتكلّم بالكلمةِ من رضوان الله تعالى، ما يظنُّ أن تبلغَ ما بلغت، يَكتب الله بها رضوانَه إلى يوم يلقاه. وإنّ الرجلَ ليتكلَّم بالكلمةِ مِن سخَط الله تعالى، ما يظنّ أن تبلغَ ما بلَغَت، يكتُب الله عليه بها سخَطَه إلى يوم يلقَاه))، فكان علقمةُ الليثيّ يقول: كم من كلامٍ قد منَعَنِيه حديثُ بلال بن الحارث، أي: هذا الحديثُ وما فيهِ من الوعيدِ. أمّا حبُّ التصدُّر وصرفِ الأنظار فهو مقصودٌ مذموم وخَصلَة مرذولة، لا يجتَني من بُلِي بها سوى المقتِ مِن الله ومِن الذين آمنوا.
 فاتقوا الله عبادَ الله، واعملوا على الاقتداء بالصّفوة من عبادِ الرحمن في ترك ما لا يَعني من الأقوال والأعمال؛ تكونوا مِن المفلحين الفائزين في جناتِ النعيم،  أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [الزمر:18].
نفعني الله وإيّاكم بهديِ كتابِه وبسنّةِ نبيِّه محمد  ، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ الجليلَ لي ولَكم ولسائرِ المسلمين من كلّ ذَنبٍ فاستغفِروه، إنّه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمدُ لله الذي يهدِي من يَشاء إلى صراطٍ مستقيم، أحمَده سبحانَه وهو البَرّ الرَّؤوفُ الرحيم، وأشهَد أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شرِيكَ له، وأشهَد أنّ سيِّدنا ونَبيَّنا محمّدًا عبدُ الله ورَسوله صاحبُ النّهجِ الراشِد والخُلُق القويم، اللهمّ صلِّ وسلِّم عليه وعلَى آله وأصحابه أفضل صلاةٍ وأتمَّ تسليم.
أمّا بعد: فيَا عبادَ الله، نقِلَ عن الحسنِ البصري رحمه الله قولُه: "من علامةِ إِعراض الله عن العبدِ أن يجعلَ شغلَه فيما لا يَعنيه".
فعلى العاقلِ الذي يرجو الله والدارَ الآخرة أن يكونَ مقبِلا على شأنه، حافظًا للسانِه، بصيرًا بزمانه، وأن يعُدَّ كلامه من عملِه، فإنَّ مَن عدَّ كلامَه من عمَلِه قلَّ كلامُه إلاّ فيما يَعنيه؛ ذلك أنَّ أكثَرَ ما يُقصَد بترك ما لا يعني كما ـ قال العلامة الحافظ ابن رجب رحمه الله ـ حِفظُ اللسان عن لغوِ الكلام، وحَسبُه ضررًا أن يشغلَ صاحبَه عن ألوانٍ كثيرة من الخير الذي يسمو به مقامُه ويعلو به قدرُه وتشرُف به منزلته وتطيب به حياتُه وتحسُن به عاقِبته.
ألا فاتقوا الله عباد الله، واحرصوا على ما ينفعكم في دنياكم وأُخراكم.
واذكُروا على الدّوَام أنَّ الله تعالى قد أمَرَكم بالصّلاة والسّلام على خاتَمِ النبيّين وإمَامِ المتّقين ورحمةِ الله للعالمين، فقالَ سبحانه في الكتابِ المبين:  إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللّهمَّ صلِّ وسلِّم علَى عبدك ورسولكَ محمّد، وارضَ اللَّهمّ عن خلَفائِه الأربعة...


Tidak ada komentar: