=مفهوم الرجولة .. وأطفال الحجارة
الخطبة الأولى
الحمد لله مدبر الأحوال ، ومنشئ السحاب الثقال ، أحمده سبحانه وأشكره ؛ مسبغ النعم والإفضال ، له الحمد في الأولى والآخرة وإليه المآل ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال ، والمتفرد بالعظمة والجلال ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله ربى الصفوة من الرجال ؛ الذين درسوا معالم الكفر والضلال ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه خير صحب وآل .
أما بعد :
فاتقوا الله حق التقوى ، وراقبوه في السر والنجوى ، قال تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون )) .
عباد الله :
قال تعالى : (( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا عليه )) ، وقال تعالى : (( رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار )) .
مادة ( ر ج ل ) : تدل بأصل وضعها في اللغة على طائفة كبيرة من المعاني غير الذكورة القابلة للإنوثة في بني الإنسان .. تقول العرب في المفاضلة بين الاثنين وتفوق أحدهما على صاحبه : (( أرجل الرجلين )) ، وللدلالة على القدرة على التصدي للأحداث : ((رجل الساعة )) ، وفي ختام المباهاة بالشرف والثناء تقول : (( هو من رجالات قومه )) .
وعند ورودها في القرآن تضيف مع دلالتها على النوع معانيَ أخرى تسمو بالنوع إلى السمو والامتياز .. استعمل القرآن (( رجالاً )) وصفاً للمصطفيْن الأخيار (( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم )) .
والوصف بالرجولة في بعض المواطن تعبير مقصود يوحي بمقومات هذه الصفة من جرأة على الحق ومناصرة للقائمين عليه ، قال تعالى : (( وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين )) ، وقال سبحانه: (( وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم )) .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع إلى الرجولة التي تناصره وتعتز بها دعوته ويسألها ربه فيقول : (( اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ )) قال الراوي : وكان أحبهما إليه عمر " أخرجه الترمذي " .. يتطلع إلى معالم الرجولة التي تُؤثِّر في نشر الدعوة وإعزاز الإسلام .
كان إسلام عمر حدثاً كبيراً وُجدت رجولته في اللحظة الأولى من إسلامه .. فبعد أن كان المسلمون لا يجرءون على الجهر بدينهم جهروا به .. قال ابن مسعود رضي الله عنه : (( مَازِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ )) أخرجه البخاري .
لم تكن رجولة عمر في قوة بدنه ولا في فروسيته .. ففي قريش من هو أقوى منه ، ولكن رجولته كانت في إيمانه القوي ونفسه الكبيرة التي تبعث على التقدير والإكبار .
هاجر الصحابة خُفية ، أما عمر فقد تقلد سيفه ومضى إلى الكعبة فطاف وصلى في المقام وأعلن هجرته على الملأ وقال لهم : (( من أراد أن تثلكه أمه ، وييتم ولده ، ويرمل زوجته ، فليتبعني وراء هذا الوادي )) .. فما تبعه أحد منهم .
يضع عمر البرامج لتعليم الرجولة فيقول : (( علموا أولادكم الرماية والسباحة وركوب الخيل ، ورووهم ما يجمل من الشعر )) .
الرجولة مطلب .. يسعى للتجمل بخصائصها أصحاب الهمم ، ويسمو بمعانيها الرجال الجادون ، وهي صفة أساسية .. فالناس إذا فقدوا أخلاق الرجال صاروا أشباه رجال .. غثاء كغثاء السيل .
الرجولة ترسخ بعقيدة قوية ، وتهذب بتربية صحيحة ، وتنمى بقدوة حسنة .
ميزان الرجولة عند عامة الناس هو ميزان ماديٌ فقط ، فمن كان جميل المظهر ، مكتمل القوى ، كثير المال .. فهو الرجل الطيب ، ولكن ميزان الرجال في شريعة الإسلام من كانت أعماله فاضلة وأخلاقه حسنة .. مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : (( مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا ؟ قَالُوا : حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْتَمَعَ . قَالَ : ثُمَّ سَكَتَ ، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ : مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا ؟ قَالُوا : حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لَا يُشَفَّعَ ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لَا يُسْتَمَعَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا )) أخرجه البخاري .
الرجال لا يقاسون بضخامة أجسادهم ، وبهاء صورهم .. فعن علي رضي الله عنه قال : (( أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ابْنَ مَسْعُودٍ فَصَعِدَ عَلَى شَجَرَةٍ .. أَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ مِنْهَا بِشَيْءٍ ، فَنَظَرَ أَصْحَابُهُ إِلَى سَاقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ حِينَ صَعِدَ الشَّجَرَةَ فَضَحِكُوا مِنْ حُمُوشَةِ سَاقَيْهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : مَا تَضْحَكُونَ ؟ لَرِجْلُ عَبْدِ اللَّهِ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أُحُدٍ )) أخرجه الإمام أحمد .
الرجولة الحقة رأي سديد ، وكلمة طيبة ، ومروءة وشهامة وتعاون وتضامن .
الرجولة تحمل المسؤولية في الذب عن التوحيد والنصح في الله ، قال تعالى : (( وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين )) .
والرجولة قوة في القول ، وصدع بالحق ، وتحذير من المخالفة مع حرص وفطنة ، قال تعالى : (( وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذباً فعليه كذبه وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب )) .
الرجولة صمود أمام الملهيات ، واستعلاء على المغريات .. حذراً من يومٍ عصيب ، قال تعالى : (( رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار )) .
الرجل الحق يصدق في عهده ، ويفي بوعده ، ويثبت على الطريق ، قال تعالى : (( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً )) .
ليس من الرجال الذين نعنيهم أولئك الذين يعبون من الشهوات أو الغارقون في الملذات .. الذين قعدوا عن معالي الغايات ، وأعرضوا عن خالق الأرض والسماوات .
وليسوا أولئك الذين ضخمت أجسامهم ، وقد خلت من قول الحكمة ألسنتهم ، وسداد الرأي عقولهم .. هؤلاء الرجال أشباه رجال .. لا ننشدهم ، بل نبغي الذين عناهم القرآن في قوله : (( الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ، والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً ، والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً ، إنها ساءت مستقراً ومقاماً ، والذين إذا أنفقوا ولم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً )) .
ليس من الرجولة أن يكون الشاب كالإمعة إن أحسن الناس أحسن ، وإن أساءوا أساء .. وإذا ولغ أصحابه في مستنقعات السوء جرى في ركابهم ؛ لكي يكون رجلاً كما يزعمون .
هل من معالم الرجولة الحقة أن تكون غاية مراد الشاب شهوةً قريبة ، ولذةً محرمة في ليلة عابثة بلا حسيب ولا رقيب ؟!
أين هذا من رجل قلبه معلق بالمساجد ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها ، ورجلين تجابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه .. أولئك يمقتهم الرحمن ، وهؤلاء يدنيهم ويظلهم في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله .
قلم الأديب المسلم تام الرجولة .. شعر يهذب الأخلاق ، ويسمو بالمعاني وينبذ الإسفاف ، وروايات تحكي الخيّرين من الأسلاف ، وحوارات ترفع طموحات الأمة وتحقق جليل الأهداف .. أدب لا ميوعة فيه ولا تخنث .
وقد ابتليت الأمة في أعقاب الزمن – في بعض نواحيها – بأدب لا يمت إلى الرجولة بصلة .. ألفاظ خانعة ، وترانيم ساقطة ، وتخنث فاضح .
إن شر ما تصاب به الحياة ؛ هو الخروج على الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، وذلك بتخنث الرجل واسترجال المرأة .
أين الرجولة فيمن يتمايل في حركاته ؟! ويطيل شعره ؟! ويضع القلادة على رقبته ؟! ويتأطر في مشيته ؟! .. بل قد يرقص كما ترقص النساء .. إن هذه السلوكيات نواة شر ، ونذير فساد لكل المجتمع ؛ لأنها تحكي مسخاً وانحرافاً عن الفطرة ، وانهزامية وانحطاطاً على حساب أخلاق الأمة ؛ ولهذا " لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُتَشَبِّهِينَ مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ " أخرجه البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .
بعض وسائل التربية العقيمة المستوردة جعلت بعض أبناء المسلمين لا يعرفون تكاليف الرجولة ، وإذا عرفوها لا يطيقونها ولا يقومون كما ينبغي بأعبائها .. وهذا نتاج المخطط المدروس الذي يعمل على دمج النساء بالرجال ؛ لتعطيل التكاليف الشرعية الخاصة بكل منهما ؛ وليجعل من لباس المرأة والرجل شيئاً واحداً .. والتشابه في الظاهر يورث التشابه في الباطن .
حين تَضْمُر خصائص الرجولة – بجناية الرجال أنفسهم – يحل بالمجتمع العطب ، وبالبيت الضياع ، وبالأمة الضعف والهوان والصغار .. تضيع القوامة ، وتضعف الغيرة .. فتتسع رقعة الفساد الخلقي .
قال تعالى : (( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض )) .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ...
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه .
أما بعد :
فاتقوا الله – عباد الله – حق التقوى .
والحديث عن الرجولة في العصر الحاضر يذكرك أطفال الحجارة .. هم أطفال في أجسامهم ، أبطال في أفعالهم ، رجال في مواقفهم .. بحق يصدق فيهم وصف الرجولة ؛ فقد تربوا على مائدة القرآن .. يجاهدون في سبيل الله وغيرهم يجاهد بالخطب الرنانة والعبارات المخدِّرة .. إن كثيراً من هؤلاء لم يصلوا إلى مستوى الرجل الطفل .. طفل الحجارة .
رجولة تأبى الطغيان والاستسلام للمعتدين .. لا يهابون طلقات القذائف .. بل يتصدون لها بصدورهم وقلوبهم حتى يحرر القدس الشريف .. إنها همم رجال ترفض المهانة والذل .
هؤلاء الأطفال اعتقل آباؤهم نصب أعينهم ، وهدِّمت منازلهم وهم يشهدون ذلك بناظِرَيهم ..
إن هذا الطفل لا يملك سوى حجر ، ولكنه يرى نفسه شامخاً يتحدى دبابة الاحتلال دون خوف أو وجل .. والأمهات يباركن خطوات فلذات أكبادهن نحو الموت والشهادة .
صبر ذلك الشعب طويلاً ، وقدم تضحيات جسيمة ، ودماؤه تراق على أرض فلسطين.. وهم بأحجارهم وعصيهم وقفوا ضد اعتداء الغاصبين الذين نهبوا الأموال ، وقتَّلوا الأبرياء ، ونقضوا العهود والمواثيق .
سجَّل أبناء تلك الأرض بطولات وتضحيات لا تتوقف أمام الصلف اليهودي الذي أقدم – وما زال – على أبشع ما عرفت البشرية من وحشية .
لماذا يحجم العالم – الذي يزعم أنه متحضر – عن ردع المعتدي والأخذ على يديه ؟!! أين المعاهدات والمواثيق التي تنص على ضمان السلام والتقليل من الجرائم ، والأخذ على يد المعتدي ونصرة المظلوم ؟!!
أين دعاة السلام والداعون له والمنظرون لثقافته ؟!! وهذه المذابح والبنادق والصواريخ تخّرب الديار ، وتحرق القلوب والأجساد .. أجساد الشيوخ الركع ، والأطفال الرضع .
إن هذه الدماء لن تثمر – بإذن الله – إلا نفوساً أبية .. لن ترضى الدنية في دينها ، ولتسقط تلك الدعاوى الساقطة ، ولتنكسر تلك الأقلام الهزيلة التي ما زالت تزين السلام غير العادل يزينة كالحة .
لقد عاهدت الأمة الإسلامية ربها أن تظل القدس جوهر عقيدتها .. هي في قلوبنا وعقولنا ومشاعرنا .. بل هي فوق كل الاعتبارات الآنية ، والمصالح الدنيوية .. لن نفرط في ذرة من ترابها ، ولا سلام ولا استقرار بدونها ، وكل الممارسات التي يمارسها العدو من استيطان وتهويد هي أمور غير شرعية ترفضها الأمة كما ترفض الاحتلال ذاته .
إن أرضَ فلسطين إسلاميةٌ وستبقى كذلك مهما تكالبت عليها الخطوب (( ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون )) ، وسيبقى الكفاح ، وتدوم التضحية حتى تعود الأرض لأصحابها وأهلها الشرعيين .
إن واجب المسلمين نحو القدس استند إلى القرآن والسنة النبوية .. وربطت رحلة الإسراء والمعراج مشاعر المسلمين بهذه الأرض المباركة .. فقضية القدس ليست قضية تتعلق بالأرض .. بل يجب أن تبقى قضية إسلامية تعنى الأمة كل الأمة .. وذمم المسلمين لن تبرأ إلا إذا عملت على تطهير المدينة التي تشرفت برحلة الإسراء والمعراج ، وإعادتها إلى سيادة المسلمين .. والله متم نوره ولو كره الكافرون .
اللهم دمر اليهود الغاصبين ، اللهم شتت شملهم ، وفرق جمعهم …
ألا وصلوا وسلموا - عباد الله - على رسول الهدى ومعلم البشرية الخير ...
الخطبة الأولى
الحمد لله مدبر الأحوال ، ومنشئ السحاب الثقال ، أحمده سبحانه وأشكره ؛ مسبغ النعم والإفضال ، له الحمد في الأولى والآخرة وإليه المآل ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال ، والمتفرد بالعظمة والجلال ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله ربى الصفوة من الرجال ؛ الذين درسوا معالم الكفر والضلال ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه خير صحب وآل .
أما بعد :
فاتقوا الله حق التقوى ، وراقبوه في السر والنجوى ، قال تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون )) .
عباد الله :
قال تعالى : (( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا عليه )) ، وقال تعالى : (( رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار )) .
مادة ( ر ج ل ) : تدل بأصل وضعها في اللغة على طائفة كبيرة من المعاني غير الذكورة القابلة للإنوثة في بني الإنسان .. تقول العرب في المفاضلة بين الاثنين وتفوق أحدهما على صاحبه : (( أرجل الرجلين )) ، وللدلالة على القدرة على التصدي للأحداث : ((رجل الساعة )) ، وفي ختام المباهاة بالشرف والثناء تقول : (( هو من رجالات قومه )) .
وعند ورودها في القرآن تضيف مع دلالتها على النوع معانيَ أخرى تسمو بالنوع إلى السمو والامتياز .. استعمل القرآن (( رجالاً )) وصفاً للمصطفيْن الأخيار (( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم )) .
والوصف بالرجولة في بعض المواطن تعبير مقصود يوحي بمقومات هذه الصفة من جرأة على الحق ومناصرة للقائمين عليه ، قال تعالى : (( وجاء رجل من أقصى المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين )) ، وقال سبحانه: (( وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم )) .
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتطلع إلى الرجولة التي تناصره وتعتز بها دعوته ويسألها ربه فيقول : (( اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ بِأَحَبِّ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ إِلَيْكَ بِأَبِي جَهْلٍ أَوْ بِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ )) قال الراوي : وكان أحبهما إليه عمر " أخرجه الترمذي " .. يتطلع إلى معالم الرجولة التي تُؤثِّر في نشر الدعوة وإعزاز الإسلام .
كان إسلام عمر حدثاً كبيراً وُجدت رجولته في اللحظة الأولى من إسلامه .. فبعد أن كان المسلمون لا يجرءون على الجهر بدينهم جهروا به .. قال ابن مسعود رضي الله عنه : (( مَازِلْنَا أَعِزَّةً مُنْذُ أَسْلَمَ عُمَرُ )) أخرجه البخاري .
لم تكن رجولة عمر في قوة بدنه ولا في فروسيته .. ففي قريش من هو أقوى منه ، ولكن رجولته كانت في إيمانه القوي ونفسه الكبيرة التي تبعث على التقدير والإكبار .
هاجر الصحابة خُفية ، أما عمر فقد تقلد سيفه ومضى إلى الكعبة فطاف وصلى في المقام وأعلن هجرته على الملأ وقال لهم : (( من أراد أن تثلكه أمه ، وييتم ولده ، ويرمل زوجته ، فليتبعني وراء هذا الوادي )) .. فما تبعه أحد منهم .
يضع عمر البرامج لتعليم الرجولة فيقول : (( علموا أولادكم الرماية والسباحة وركوب الخيل ، ورووهم ما يجمل من الشعر )) .
الرجولة مطلب .. يسعى للتجمل بخصائصها أصحاب الهمم ، ويسمو بمعانيها الرجال الجادون ، وهي صفة أساسية .. فالناس إذا فقدوا أخلاق الرجال صاروا أشباه رجال .. غثاء كغثاء السيل .
الرجولة ترسخ بعقيدة قوية ، وتهذب بتربية صحيحة ، وتنمى بقدوة حسنة .
ميزان الرجولة عند عامة الناس هو ميزان ماديٌ فقط ، فمن كان جميل المظهر ، مكتمل القوى ، كثير المال .. فهو الرجل الطيب ، ولكن ميزان الرجال في شريعة الإسلام من كانت أعماله فاضلة وأخلاقه حسنة .. مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ : (( مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا ؟ قَالُوا : حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْتَمَعَ . قَالَ : ثُمَّ سَكَتَ ، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنْ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ : مَا تَقُولُونَ فِي هَذَا ؟ قَالُوا : حَرِيٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لَا يُنْكَحَ ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لَا يُشَفَّعَ ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لَا يُسْتَمَعَ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الْأَرْضِ مِثْلَ هَذَا )) أخرجه البخاري .
الرجال لا يقاسون بضخامة أجسادهم ، وبهاء صورهم .. فعن علي رضي الله عنه قال : (( أَمَرَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم ابْنَ مَسْعُودٍ فَصَعِدَ عَلَى شَجَرَةٍ .. أَمَرَهُ أَنْ يَأْتِيَهُ مِنْهَا بِشَيْءٍ ، فَنَظَرَ أَصْحَابُهُ إِلَى سَاقِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ حِينَ صَعِدَ الشَّجَرَةَ فَضَحِكُوا مِنْ حُمُوشَةِ سَاقَيْهِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : مَا تَضْحَكُونَ ؟ لَرِجْلُ عَبْدِ اللَّهِ أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ أُحُدٍ )) أخرجه الإمام أحمد .
الرجولة الحقة رأي سديد ، وكلمة طيبة ، ومروءة وشهامة وتعاون وتضامن .
الرجولة تحمل المسؤولية في الذب عن التوحيد والنصح في الله ، قال تعالى : (( وجاء رجل من أقصا المدينة يسعى قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين )) .
والرجولة قوة في القول ، وصدع بالحق ، وتحذير من المخالفة مع حرص وفطنة ، قال تعالى : (( وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذباً فعليه كذبه وإن يك صادقاً يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب )) .
الرجولة صمود أمام الملهيات ، واستعلاء على المغريات .. حذراً من يومٍ عصيب ، قال تعالى : (( رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والأبصار )) .
الرجل الحق يصدق في عهده ، ويفي بوعده ، ويثبت على الطريق ، قال تعالى : (( من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً )) .
ليس من الرجال الذين نعنيهم أولئك الذين يعبون من الشهوات أو الغارقون في الملذات .. الذين قعدوا عن معالي الغايات ، وأعرضوا عن خالق الأرض والسماوات .
وليسوا أولئك الذين ضخمت أجسامهم ، وقد خلت من قول الحكمة ألسنتهم ، وسداد الرأي عقولهم .. هؤلاء الرجال أشباه رجال .. لا ننشدهم ، بل نبغي الذين عناهم القرآن في قوله : (( الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً ، والذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً ، والذين يقولون ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غراماً ، إنها ساءت مستقراً ومقاماً ، والذين إذا أنفقوا ولم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواماً )) .
ليس من الرجولة أن يكون الشاب كالإمعة إن أحسن الناس أحسن ، وإن أساءوا أساء .. وإذا ولغ أصحابه في مستنقعات السوء جرى في ركابهم ؛ لكي يكون رجلاً كما يزعمون .
هل من معالم الرجولة الحقة أن تكون غاية مراد الشاب شهوةً قريبة ، ولذةً محرمة في ليلة عابثة بلا حسيب ولا رقيب ؟!
أين هذا من رجل قلبه معلق بالمساجد ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله ، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها ، ورجلين تجابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه .. أولئك يمقتهم الرحمن ، وهؤلاء يدنيهم ويظلهم في ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله .
قلم الأديب المسلم تام الرجولة .. شعر يهذب الأخلاق ، ويسمو بالمعاني وينبذ الإسفاف ، وروايات تحكي الخيّرين من الأسلاف ، وحوارات ترفع طموحات الأمة وتحقق جليل الأهداف .. أدب لا ميوعة فيه ولا تخنث .
وقد ابتليت الأمة في أعقاب الزمن – في بعض نواحيها – بأدب لا يمت إلى الرجولة بصلة .. ألفاظ خانعة ، وترانيم ساقطة ، وتخنث فاضح .
إن شر ما تصاب به الحياة ؛ هو الخروج على الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، وذلك بتخنث الرجل واسترجال المرأة .
أين الرجولة فيمن يتمايل في حركاته ؟! ويطيل شعره ؟! ويضع القلادة على رقبته ؟! ويتأطر في مشيته ؟! .. بل قد يرقص كما ترقص النساء .. إن هذه السلوكيات نواة شر ، ونذير فساد لكل المجتمع ؛ لأنها تحكي مسخاً وانحرافاً عن الفطرة ، وانهزامية وانحطاطاً على حساب أخلاق الأمة ؛ ولهذا " لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم الْمُتَشَبِّهِينَ مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ وَالْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ " أخرجه البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما .
بعض وسائل التربية العقيمة المستوردة جعلت بعض أبناء المسلمين لا يعرفون تكاليف الرجولة ، وإذا عرفوها لا يطيقونها ولا يقومون كما ينبغي بأعبائها .. وهذا نتاج المخطط المدروس الذي يعمل على دمج النساء بالرجال ؛ لتعطيل التكاليف الشرعية الخاصة بكل منهما ؛ وليجعل من لباس المرأة والرجل شيئاً واحداً .. والتشابه في الظاهر يورث التشابه في الباطن .
حين تَضْمُر خصائص الرجولة – بجناية الرجال أنفسهم – يحل بالمجتمع العطب ، وبالبيت الضياع ، وبالأمة الضعف والهوان والصغار .. تضيع القوامة ، وتضعف الغيرة .. فتتسع رقعة الفساد الخلقي .
قال تعالى : (( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض )) .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ...
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه .
أما بعد :
فاتقوا الله – عباد الله – حق التقوى .
والحديث عن الرجولة في العصر الحاضر يذكرك أطفال الحجارة .. هم أطفال في أجسامهم ، أبطال في أفعالهم ، رجال في مواقفهم .. بحق يصدق فيهم وصف الرجولة ؛ فقد تربوا على مائدة القرآن .. يجاهدون في سبيل الله وغيرهم يجاهد بالخطب الرنانة والعبارات المخدِّرة .. إن كثيراً من هؤلاء لم يصلوا إلى مستوى الرجل الطفل .. طفل الحجارة .
رجولة تأبى الطغيان والاستسلام للمعتدين .. لا يهابون طلقات القذائف .. بل يتصدون لها بصدورهم وقلوبهم حتى يحرر القدس الشريف .. إنها همم رجال ترفض المهانة والذل .
هؤلاء الأطفال اعتقل آباؤهم نصب أعينهم ، وهدِّمت منازلهم وهم يشهدون ذلك بناظِرَيهم ..
إن هذا الطفل لا يملك سوى حجر ، ولكنه يرى نفسه شامخاً يتحدى دبابة الاحتلال دون خوف أو وجل .. والأمهات يباركن خطوات فلذات أكبادهن نحو الموت والشهادة .
صبر ذلك الشعب طويلاً ، وقدم تضحيات جسيمة ، ودماؤه تراق على أرض فلسطين.. وهم بأحجارهم وعصيهم وقفوا ضد اعتداء الغاصبين الذين نهبوا الأموال ، وقتَّلوا الأبرياء ، ونقضوا العهود والمواثيق .
سجَّل أبناء تلك الأرض بطولات وتضحيات لا تتوقف أمام الصلف اليهودي الذي أقدم – وما زال – على أبشع ما عرفت البشرية من وحشية .
لماذا يحجم العالم – الذي يزعم أنه متحضر – عن ردع المعتدي والأخذ على يديه ؟!! أين المعاهدات والمواثيق التي تنص على ضمان السلام والتقليل من الجرائم ، والأخذ على يد المعتدي ونصرة المظلوم ؟!!
أين دعاة السلام والداعون له والمنظرون لثقافته ؟!! وهذه المذابح والبنادق والصواريخ تخّرب الديار ، وتحرق القلوب والأجساد .. أجساد الشيوخ الركع ، والأطفال الرضع .
إن هذه الدماء لن تثمر – بإذن الله – إلا نفوساً أبية .. لن ترضى الدنية في دينها ، ولتسقط تلك الدعاوى الساقطة ، ولتنكسر تلك الأقلام الهزيلة التي ما زالت تزين السلام غير العادل يزينة كالحة .
لقد عاهدت الأمة الإسلامية ربها أن تظل القدس جوهر عقيدتها .. هي في قلوبنا وعقولنا ومشاعرنا .. بل هي فوق كل الاعتبارات الآنية ، والمصالح الدنيوية .. لن نفرط في ذرة من ترابها ، ولا سلام ولا استقرار بدونها ، وكل الممارسات التي يمارسها العدو من استيطان وتهويد هي أمور غير شرعية ترفضها الأمة كما ترفض الاحتلال ذاته .
إن أرضَ فلسطين إسلاميةٌ وستبقى كذلك مهما تكالبت عليها الخطوب (( ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون )) ، وسيبقى الكفاح ، وتدوم التضحية حتى تعود الأرض لأصحابها وأهلها الشرعيين .
إن واجب المسلمين نحو القدس استند إلى القرآن والسنة النبوية .. وربطت رحلة الإسراء والمعراج مشاعر المسلمين بهذه الأرض المباركة .. فقضية القدس ليست قضية تتعلق بالأرض .. بل يجب أن تبقى قضية إسلامية تعنى الأمة كل الأمة .. وذمم المسلمين لن تبرأ إلا إذا عملت على تطهير المدينة التي تشرفت برحلة الإسراء والمعراج ، وإعادتها إلى سيادة المسلمين .. والله متم نوره ولو كره الكافرون .
اللهم دمر اليهود الغاصبين ، اللهم شتت شملهم ، وفرق جمعهم …
ألا وصلوا وسلموا - عباد الله - على رسول الهدى ومعلم البشرية الخير ...
Tidak ada komentar:
Posting Komentar