=مفهوم العبادة في الإسلام
الخطبة الأولى
الحمد لله القائل : (( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )) ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل : (( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين )) ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله أفضل من حقق التوحيد ولزم عبودية رب العبيد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أولي النهى والخلق السديد وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد :
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله قال تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون )) .
إن الله تعالى غني عن العالمين ، غني عن عباداتهم وطاعاتهم ، فلا تنفعه طاعة من أطاع ، ولا معصية من عصى : (( ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني عن العالمين )) .
فالإنسان لا ينفك عن وصف العبودية ، لأنه كائن حي ذو حاجات ومطامع ، ولأن له قلباً ، فإما أن يكون عبداً لله وإلا فهو عبد لغيره عبداً ذليلاً لذلك المراد المحبوب إما المال ، وإما الجاه
أي أنه إن لم يرض أن يكون عبداً لله استعبدته حاجاته ومطامعه وأهواؤه وشهواته ، وطواغيت الجن والإنس ، وما يزينون لبني آدم من معبودات ، ومن هذا يتضح أن العبودية لله تحررهم من كل عبودية أخرى شعروا بها أو لم يشعروا بها ، رضوا أو سخطوا .
فالقلب لا يصلح ، ولا يفلح ، لا ينعم ، ولا يسر ، ولا يلتذ ، ولا يطيب ، ولا يسكن ، ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحده والإنابة إليه .
ولو حصل كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ، ولم يسكن ، إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه بالفطرة ، من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة .
وهذا لا يحصل له إلا بإعانة الله له ، فإنه لا يقدر على تحصيل ذلك السرور والسكون إلا الله ، فهو دائماً مفتقر إلى حقيقة (( إياك نعبد وإياك نستعين )) ، فإنه لو أعين على حصوله كل ما يحبه ويطلبه ويشتهيه ويريده، ولم تحصل له عبادة الله ، فلن يحصل إلا على الألم والحسرة والعذاب ، ولن يخلص من آلام الدنيا ونكد عيشها ، إلا بإخلاص الحب لله ، بحيث يكون الله هو غاية مراده ، ونهاية مقصوده وهو المحبوب له بالقصد الأول ، وكل ما سواه إنما يحبه لأجله ، ولا يحب شيئاً لذاته إلا الله ، ومتى لم يحصل هذا لم يكن قد حقق حقيقة لا إله إلا الله .
وكان شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله يقول : ( ومن أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية ) ، وقال بعضهم : (لا طريق أقرب إلى الله من العبودية ) ، إن الله تعالى قد سهل العبادة ويسرها غاية التيسير وجعل للخير أبواباً ليلجها من للخير يقصد ويسير ، انظروا إلى الصلاة التي هي آكد أركان الإسلام بعد التوحيد تجدوها قليلة الكلفة كثيرة الأجر فهي خمس في الفعل وخمسون في الميزان مفرقة في أوقات مناسبة حتى لا يحصل الملل ، وإذا أقامها الإنسان في جماعة كانت الصلاة مع الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة ، وهذه النوافل التابعة للمكتوبات اثنتا عشرة ركعة، من صلاهن بنى الله له بيتاً في الجنة .
وإذا توضأ الإنسان فأسبع الوضوء ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، اللهم اجعلني من التوابين ، واجعلني من المتطهرين ، فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء ، وهذه الصدقات إذا كانت بنية خالصة ومن كسب طيب ، فإن الله يقبلها بيمينه ، ويريبها لصاحبها حتى يكون ما يعادل التمرة مثل الجبل العظيم ) .
من رحمة الله بعباده أن وسع لهم أبوب التقرب والعبادة من تلاوة وذكر وصيام وصدقة ، فيشعر المسلم أن أبواب الخير واسعة ، ومجالات الإحسان ليست قاصرة على نوع من أنواع الطاعات .
مفهوم العبادة في الإسلام مفهوم واسع يتجاوز حدود العبادات ويشمل حتى الأعمال إن أحسنا النية فيها ، وفعلناها إرضاء لله تعالى واجتناباً لنواهيه ، واتساع مفهوم العبادة يهدف إلى توجيه الناس إلى أعمال الخير والبر لكي يسعد الناس بمساعدة بعضهم بعضاً ، ولو كانت العبادة وحدها هي الطريق الوحيد لتحصيل الأجر لقعد الناس عن العمل وعن فعل الخير .
إن كل عمل اجتماعي نافع يعده الإسلام عبادة من أفضل العبادة مادام قصد فاعله الخير لا تصيد الثناء واكتساب السمعة الزائفة عند الناس .
ليست العبادة مجرد انزواء عن الحياة وعكوف على المساجد ، وإنما شرعت العبادة في الإسلام لتكون محققة للعقيدة ، وثمرة سلوكية عملية لها ، ولذلك لم يقتصر مفهوم العبادة في الإسلام على النسك والعبادات الراتبة التي تقام في أمكنة معينة ، وبكيفيات مخصوصة ، ولا بالاتجاه إلى جهة معينة، بل شملت العبادة كل جوانب الحياة (( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم .... )) الآية .
فكل عمل يقصد به وجه الله تعالى والقيام بحق الناس بإصلاح الأرض ومنع الفساد فيها بعد عبادة ، وهكذا تتحول جميع أعمال الإنسان مهما حققت له من نفع دنيوي إلى عبادة إذا قصد بها رضا الله .
إن حياتنا كلها عبادة إذا أخلصنا العمل لوجه الله وابتغينا بذلك رضاه ، فالعمل عبادة ، فإذا خرج الإنسان يعمل لينفق على أهله ويكفيهم المئونة فذلك عبادة لقوله عليه الصلاة والسلام : (( إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا أَنْفَقَ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةً وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً )) أخرجه مسلم .
وطلب العلم عبادة ، بل هو فريضة لقوله عليه الصلاة والسلام : ((طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ )) أخرجه ابن ماجه .
وبر الوالدين وحسن صحبتهما عبادة لقوله عليه الصلاة والسلام للرجل الذي أقبل لمبايعة رسول الله على الهجرة والجهاد : ((فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ ؟ )) قَالَ : نَعَمْ بَلْ كِلَاهُمَا ، قَالَ : فَتَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنْ اللَّه،ِ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : ((فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا )) أخرجه مسلم .
وصلة الأرحام عبادة لقوله عليه الصلاة والسلام : (( الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ )) أخرجه مسلم .
وإماطة الأذى عن الطريق عبادة لقوله عليه الصلاة والسلام : ((كَانَ عَلَى الطَّرِيقِ غُصْنُ شَجَرَةٍ يُؤْذِي النَّاسَ فَأَمَاطَهَا رَجُلٌ فَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ)) أخرجه ابن ماجه .
وطلاقة الوجه عند اللقاء عبادة لقوله عليه الصلاة والسلام : (( لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ )) أخرجه مسلم.
يقول الإمام النووي حول هذا الحديث : ( وفي هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنية الصادقة)
والعبادة نظام شامل للحياة ومن يأخذ جانباً واحداً فقط ويقصر نفسه عليه فقد جانب الصواب وخالف هدي الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبخس الأمور الأخرى حقها ، ولا يأخذ كل ذي حق حقه ، عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍرضي الله عنه قال جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَحَدُهُمْ : أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا ، وَقَالَ آخَر :ُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ ، وَقَالَ آخَرُ : أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ : ((أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي )) أخرجه البخاري .
بارك الله لي ولكم في القرآن ...
الخطبة الثانية
الحمد على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشأنه ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد :
فاتقوا الله حق التقوى وراقبوه في السر والنجوى .
عباد الله : احرصوا على الخير الذي قدمتموه والفضل الذي نلتموه بالمداومة على العمل الصالح ، ومن علامة قبول التوبة والأعمال أن يكون العبد أحسن حالاً بعد الطاعة عما قبل .
ومن علامة القبول التوفيق بعد العمل إلى عمل صالح ، قال بعض السلف : (( جزاء الحسنة حسنة بعدها ، وجزاء السيئة سيئة بعدها )) فالأعمال الصالحات يستجر بعضها بعضاً ، والأعمال السيئة يسوق بعضها بعضاً ، قال بعض السلف : (( من وجد ثمرة عمله عاجلاً فهو دليل على وجود القبول آجلاً )) .
المداومة على الأعمال الصالحة تدل على اتصال القلب بخالقه مما يعطيه قوة وثباتاً وتعلقاً بالله عز وجل ، واعتبر بعض أهل العلم هذا الأثر من الحكم التي شرعت من أجلها الأذكار المطلقة والمقيدة بالأحوال .
المداومة على الأعمال الصالحة من أحب الأعمال إلى الله ، كما في الحديث القدسي : (( وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ )) أخرجه البخاري .
ومن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم المداومة على الأعمال الصالحة ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت : ((إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ وَكَانَ إِذَا نَامَ مِنْ اللَّيْلِ أَوْ مَرِضَ صَلَّى مِنْ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً )) رواه مسلم .
ألا وصلوا عباد الله على رسول الهدى ......
الخطبة الأولى
الحمد لله القائل : (( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون )) ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل : (( واعبد ربك حتى يأتيك اليقين )) ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله أفضل من حقق التوحيد ولزم عبودية رب العبيد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أولي النهى والخلق السديد وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد :
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله قال تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون )) .
إن الله تعالى غني عن العالمين ، غني عن عباداتهم وطاعاتهم ، فلا تنفعه طاعة من أطاع ، ولا معصية من عصى : (( ومن يشكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن الله غني عن العالمين )) .
فالإنسان لا ينفك عن وصف العبودية ، لأنه كائن حي ذو حاجات ومطامع ، ولأن له قلباً ، فإما أن يكون عبداً لله وإلا فهو عبد لغيره عبداً ذليلاً لذلك المراد المحبوب إما المال ، وإما الجاه
أي أنه إن لم يرض أن يكون عبداً لله استعبدته حاجاته ومطامعه وأهواؤه وشهواته ، وطواغيت الجن والإنس ، وما يزينون لبني آدم من معبودات ، ومن هذا يتضح أن العبودية لله تحررهم من كل عبودية أخرى شعروا بها أو لم يشعروا بها ، رضوا أو سخطوا .
فالقلب لا يصلح ، ولا يفلح ، لا ينعم ، ولا يسر ، ولا يلتذ ، ولا يطيب ، ولا يسكن ، ولا يطمئن إلا بعبادة ربه وحده والإنابة إليه .
ولو حصل كل ما يلتذ به من المخلوقات لم يطمئن ، ولم يسكن ، إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه بالفطرة ، من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه، وبذلك يحصل له الفرح والسرور واللذة والنعمة والسكون والطمأنينة .
وهذا لا يحصل له إلا بإعانة الله له ، فإنه لا يقدر على تحصيل ذلك السرور والسكون إلا الله ، فهو دائماً مفتقر إلى حقيقة (( إياك نعبد وإياك نستعين )) ، فإنه لو أعين على حصوله كل ما يحبه ويطلبه ويشتهيه ويريده، ولم تحصل له عبادة الله ، فلن يحصل إلا على الألم والحسرة والعذاب ، ولن يخلص من آلام الدنيا ونكد عيشها ، إلا بإخلاص الحب لله ، بحيث يكون الله هو غاية مراده ، ونهاية مقصوده وهو المحبوب له بالقصد الأول ، وكل ما سواه إنما يحبه لأجله ، ولا يحب شيئاً لذاته إلا الله ، ومتى لم يحصل هذا لم يكن قد حقق حقيقة لا إله إلا الله .
وكان شيخ الإسلام ابن تيميه رحمه الله يقول : ( ومن أراد السعادة الأبدية فليلزم عتبة العبودية ) ، وقال بعضهم : (لا طريق أقرب إلى الله من العبودية ) ، إن الله تعالى قد سهل العبادة ويسرها غاية التيسير وجعل للخير أبواباً ليلجها من للخير يقصد ويسير ، انظروا إلى الصلاة التي هي آكد أركان الإسلام بعد التوحيد تجدوها قليلة الكلفة كثيرة الأجر فهي خمس في الفعل وخمسون في الميزان مفرقة في أوقات مناسبة حتى لا يحصل الملل ، وإذا أقامها الإنسان في جماعة كانت الصلاة مع الجماعة أفضل من صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة ، وهذه النوافل التابعة للمكتوبات اثنتا عشرة ركعة، من صلاهن بنى الله له بيتاً في الجنة .
وإذا توضأ الإنسان فأسبع الوضوء ثم قال : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، اللهم اجعلني من التوابين ، واجعلني من المتطهرين ، فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء ، وهذه الصدقات إذا كانت بنية خالصة ومن كسب طيب ، فإن الله يقبلها بيمينه ، ويريبها لصاحبها حتى يكون ما يعادل التمرة مثل الجبل العظيم ) .
من رحمة الله بعباده أن وسع لهم أبوب التقرب والعبادة من تلاوة وذكر وصيام وصدقة ، فيشعر المسلم أن أبواب الخير واسعة ، ومجالات الإحسان ليست قاصرة على نوع من أنواع الطاعات .
مفهوم العبادة في الإسلام مفهوم واسع يتجاوز حدود العبادات ويشمل حتى الأعمال إن أحسنا النية فيها ، وفعلناها إرضاء لله تعالى واجتناباً لنواهيه ، واتساع مفهوم العبادة يهدف إلى توجيه الناس إلى أعمال الخير والبر لكي يسعد الناس بمساعدة بعضهم بعضاً ، ولو كانت العبادة وحدها هي الطريق الوحيد لتحصيل الأجر لقعد الناس عن العمل وعن فعل الخير .
إن كل عمل اجتماعي نافع يعده الإسلام عبادة من أفضل العبادة مادام قصد فاعله الخير لا تصيد الثناء واكتساب السمعة الزائفة عند الناس .
ليست العبادة مجرد انزواء عن الحياة وعكوف على المساجد ، وإنما شرعت العبادة في الإسلام لتكون محققة للعقيدة ، وثمرة سلوكية عملية لها ، ولذلك لم يقتصر مفهوم العبادة في الإسلام على النسك والعبادات الراتبة التي تقام في أمكنة معينة ، وبكيفيات مخصوصة ، ولا بالاتجاه إلى جهة معينة، بل شملت العبادة كل جوانب الحياة (( ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم .... )) الآية .
فكل عمل يقصد به وجه الله تعالى والقيام بحق الناس بإصلاح الأرض ومنع الفساد فيها بعد عبادة ، وهكذا تتحول جميع أعمال الإنسان مهما حققت له من نفع دنيوي إلى عبادة إذا قصد بها رضا الله .
إن حياتنا كلها عبادة إذا أخلصنا العمل لوجه الله وابتغينا بذلك رضاه ، فالعمل عبادة ، فإذا خرج الإنسان يعمل لينفق على أهله ويكفيهم المئونة فذلك عبادة لقوله عليه الصلاة والسلام : (( إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا أَنْفَقَ عَلَى أَهْلِهِ نَفَقَةً وَهُوَ يَحْتَسِبُهَا كَانَتْ لَهُ صَدَقَةً )) أخرجه مسلم .
وطلب العلم عبادة ، بل هو فريضة لقوله عليه الصلاة والسلام : ((طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ )) أخرجه ابن ماجه .
وبر الوالدين وحسن صحبتهما عبادة لقوله عليه الصلاة والسلام للرجل الذي أقبل لمبايعة رسول الله على الهجرة والجهاد : ((فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ ؟ )) قَالَ : نَعَمْ بَلْ كِلَاهُمَا ، قَالَ : فَتَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنْ اللَّه،ِ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : ((فَارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا )) أخرجه مسلم .
وصلة الأرحام عبادة لقوله عليه الصلاة والسلام : (( الرَّحِمُ مُعَلَّقَةٌ بِالْعَرْشِ تَقُولُ مَنْ وَصَلَنِي وَصَلَهُ اللَّهُ وَمَنْ قَطَعَنِي قَطَعَهُ اللَّهُ )) أخرجه مسلم .
وإماطة الأذى عن الطريق عبادة لقوله عليه الصلاة والسلام : ((كَانَ عَلَى الطَّرِيقِ غُصْنُ شَجَرَةٍ يُؤْذِي النَّاسَ فَأَمَاطَهَا رَجُلٌ فَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ)) أخرجه ابن ماجه .
وطلاقة الوجه عند اللقاء عبادة لقوله عليه الصلاة والسلام : (( لَا تَحْقِرَنَّ مِنْ الْمَعْرُوفِ شَيْئًا وَلَوْ أَنْ تَلْقَى أَخَاكَ بِوَجْهٍ طَلْقٍ )) أخرجه مسلم.
يقول الإمام النووي حول هذا الحديث : ( وفي هذا دليل على أن المباحات تصير طاعات بالنية الصادقة)
والعبادة نظام شامل للحياة ومن يأخذ جانباً واحداً فقط ويقصر نفسه عليه فقد جانب الصواب وخالف هدي الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبخس الأمور الأخرى حقها ، ولا يأخذ كل ذي حق حقه ، عن أَنَسَ بْنَ مَالِكٍرضي الله عنه قال جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا: وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَحَدُهُمْ : أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا ، وَقَالَ آخَر :ُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ ، وَقَالَ آخَرُ : أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ : ((أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي )) أخرجه البخاري .
بارك الله لي ولكم في القرآن ...
الخطبة الثانية
الحمد على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيماً لشأنه ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه وسلم تسليماً كثيراً .
أما بعد :
فاتقوا الله حق التقوى وراقبوه في السر والنجوى .
عباد الله : احرصوا على الخير الذي قدمتموه والفضل الذي نلتموه بالمداومة على العمل الصالح ، ومن علامة قبول التوبة والأعمال أن يكون العبد أحسن حالاً بعد الطاعة عما قبل .
ومن علامة القبول التوفيق بعد العمل إلى عمل صالح ، قال بعض السلف : (( جزاء الحسنة حسنة بعدها ، وجزاء السيئة سيئة بعدها )) فالأعمال الصالحات يستجر بعضها بعضاً ، والأعمال السيئة يسوق بعضها بعضاً ، قال بعض السلف : (( من وجد ثمرة عمله عاجلاً فهو دليل على وجود القبول آجلاً )) .
المداومة على الأعمال الصالحة تدل على اتصال القلب بخالقه مما يعطيه قوة وثباتاً وتعلقاً بالله عز وجل ، واعتبر بعض أهل العلم هذا الأثر من الحكم التي شرعت من أجلها الأذكار المطلقة والمقيدة بالأحوال .
المداومة على الأعمال الصالحة من أحب الأعمال إلى الله ، كما في الحديث القدسي : (( وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ )) أخرجه البخاري .
ومن هدي الرسول صلى الله عليه وسلم المداومة على الأعمال الصالحة ، فعن عائشة رضي الله عنها قالت : ((إِذَا عَمِلَ عَمَلًا أَثْبَتَهُ وَكَانَ إِذَا نَامَ مِنْ اللَّيْلِ أَوْ مَرِضَ صَلَّى مِنْ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً )) رواه مسلم .
ألا وصلوا عباد الله على رسول الهدى ......
Tidak ada komentar:
Posting Komentar