=الإسراف .. مظاهره وآثاره
الخطبة الأولى
الحمد لله حث على التكاثر وزيادة النسل ، أحمده سبحانه وأشكره على كل خير وفضل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الخلق والأمر ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله حذّر من الإسراف ودعا إلى الاعتدال وتحكيم الدين والعقل ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما أقبل ليل وانشق فجر .
أما بعد :
أوصيكم ونفسي بتقوى الله ، فإن التقوى سبيل النجاة وطريق الفلاح في الدارين ، قال تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون )) .
تميز هذا الدين بالمنهج الوسط ، ودعا إلى الاعتدال في كل شيء ، والتزام القصد في كل شؤون الحياة ، لا إفراط ولا تفريط .
أنكر الإسلام الإسراف الذي هو تجاوز الحد ، والإكثار ما لا ينبغي ، قال تعالى : ((ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين )). أنكر الإسلام الإسراف في العبادات من صيام وقيام ، فالذي يصوم ولا يفطر ، ويقوم ولا يرقد ، ولا يتزوج النساء ؛ يمارس سلوكاً يأباه الإسلام؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص مبيناً له منهج الاعتدال : (( فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا )) أخرجه البخاري .
إذا كان هذا في العبادة فكيف بالمباحات، قال ابن القيم – رحمه الله- : (( إن تجاوز الحد في كل أمر يضر بمصالح الدنيا والآخرة ، بل يفسد البدن أيضاً ؛ إذ إنه متى زادت أخلاطه عن حد العدل والوسط ذهب من صحته وقوته بحسب ذلك ، وهذا مطرد أيضاً في الأفعال الطبيعية كالنوم والسهر والأكل والشرب والجماع والحركة والرياضة أو الخلوة والمخالطة وغير ذلك )) انتهى .
إن الطعام غذاء للبدن ، وإذا تجاوز به المرء حد الاعتدال ، واستهلك منه فوق الحاجة؛ غدا مسبباً للأمراض ، ومضراً بالبدن ؛ خاصة حين تبلغ الشهوة المسعورة بالأكل إلى عادة الشره والبطنة ، فيصبح الأكل لذة يسعى لتحقيقها ، وغاية يطلب فيها كل ما يشتهي ؛ فيصاب بالكسل والتخمة والأمراض ، وقد يبلغ الإسراف حده إلى أغذية وأشربة مشبوهة أو محرمة ؛ ولهذا قال بعض السلف: (( جمع الله الطب كله في نصف آية : (( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا )) )) .
وتحذير الإسلام من الإسراف – وتوجيه النفس إلى الاعتدال - حماية للعقل والدين من الشبع المفرط .. قال صلى الله عليه وسلم: (( مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ )) أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث المقدام بن معد يكرب .
ومن مظاهر الإسراف تكدس خزانات الملابس بأفخر الثياب ، باهضة الأثمان ؛ سعياً وراء المظاهر والتقليد في ركض محموم ، واستسلام جموح لرغبة في الشراء ، لقد فعلت الآلة الإعلامية الدعائية فعلها في النفوس ؛ أججت المشاعر ، وسلبت العقول ، وحفّزت على الاقتناء ونهم الشراء ؛ حتى غدا الشراء لذة تغلب ، وغاية تأسر ولو لغير حاجة ، أو لغير منفعة ، بلغ الحال ببعضهم أن يستدين ؛ وهم بفعلهم هذا يلهثون لتحقيق معاني السعادة ، وهيهات .. فالسعادة ليست في ملابس زاهية ، ووسائل ترف ، وقصور مشيدة ، ومظاهر فارغة ؛ إنما هي رضا وقناعة تغمران النفس ، وتوفران الاستقرار والطمأنينة .
إن هذا النهم لن ينطفئ ، وهذا الركض لن يتوقف إلا بسلوك منهج الاعتدال الذي يحقق مقاصد الشريعة .
ومظاهر الإسراف واضحة جلية في ولائم المسلمين ومحافل نسائهم وحفلات زواجهم.. أدى هذا بكثير من الشباب إلى اليأس من الزواج المبكر ، تكاليف باهضة ، وشروط معقدة ، كيف يمكن الشاب من الزواج المبكر والمجتمع يضع بين يديه المعوقات ؛ من سرف لا حد له ، وشرط لا أصل له ، ومباهاة ما أنزل الله بها من سلطان .
ومن وسائل العلاج قيام فضلاء المجتمع وعقلائه بتحقيق القدوة الحسنة ، وضرب أروع الأمثلة في تسهيل أمور زواج أولادهم بمهور ميسورة ، وولائم معقولة ، وحفلات مشروعة ، ينأون بها عن المباهاة والمنافسة والمظهرية الجوفاء ، قال صلى الله عليه وسلم (( مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ )) أخرجه مسلم من حديث جرير بن عبد الله .
والإسراف في الإنفاق بتبديد الأموال في توافه وكماليات ، بل ومحظورات وموبقات ، وحين تغلب المسلم الشهوة الجامحة لا يستطيع منها فكاكاً ، ويفقد التحكم في هواه حتى لو وقع في الإفلاس ؛ فيبدد ماله وقد يضيع عياله ، قال تعالى : (( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً )) .
الإسلام لا يمنع التمتع بالطيبات ، ولكنه يضع لها الضوابط ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلا مَخِيلَةٍ )) أخرجه البخاري .
قال السدي – رحمه الله – : (( لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء .. )) .
وقال سفيان - رحمه الله - : (( ما أنفقت في غير طاعة الله فهو إسراف ، وإن كان قليلاً )) .
ويبين ميزان الإنفاق ابن القيم في تفسير قوله تعالى : (( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا .. )) أي ليسوا بمبذرين في إنفاقهم ؛ فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم ؛ فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم، بل عدلاً خياراً ، وخير الأمور أوسطها ، لا هذا ولا هذا )) .
ومن الإسراف تحريم ما أحل الله ، قال تعالى : (( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق )) .. قال ابن عباس : (( لا تسرفوا في تحريم ما أحل الله )) .
ومن الإسراف تجاوز الحد المعقول في استهلاك الكهرباء ووسائل الاتصال الحديثة .
إخوة الإسلام :
للإسراف آثاره ، منها أنه معصية ، والمعصية تسبب سخط الله ، ومحق البركة ، وزوال النعمة ، ومنها المساءلة غداً بين يدي الله ، كما قال سبحانه : (( ثم لتسألن يومئذٍ عن النعيم)) .
والحرمان من محبة الله الذي يؤدي إلى القلق والاضطراب ، قال تعالى : (( إنه لا يحب المسرفين )) ، وقد يؤدي الإسراف إلى ذل الدين والاستقراض من الناس ؛ رغبة في مجاراة الآخرين ، وإرهاق نفسه فوق طاقتها ، ولا يخفى أن الإسلام نفّر من الدين ، قال صلى الله عليه وسلم : ((يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْنَ )) أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في أول أمره يمتنع عن الصلاة على الميت إذا مات وعليه دين ولم يترك وفاءً في تركته ما لم يتكفل أحد من المسلمين بالوفاء بدينه .
إن هذه الأموال المهدرة بفعل الإسراف يمكن أن تكون لبنة بناء ، ومفتاح خير عميم لو استثمرت في تشييد مرافق للمجتمع ، وفي مصالح الأمة .. مستوصفات خيرية تقام ، ومدارس وقفية تؤسس ، وملاجئ ومؤسسات تبنى ، ودعم لجمعيات تحفيظ القرآن .
الإسراف يؤدي إلى غلاء الأسعار ، وضعف الإنتاج ، وتقليل الموارد ، وإنهاك الاقتصاد .
لكننا نسمع بين الفينة والأخرى أصواتاً ، ونقرأ كتابات تعكس الحقائق ، وتقلب المفاهيم ، تدعو إلى تحديد النسل ، وتجعل النمو السكاني وكثرة النسل سبباً رئيساً للفقر وقلة الموارد ، وضعف الاقتصاد ، ولو لفظ هؤلاء مفاهيمهم الغربية المظلمة ، وتأملوا كتاب ربهم لوجدوا قوله تعالى : (( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ، ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين )) .. وقوله صلى الله عليه وسلم : (( فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ )) أخرجه ابن ماجه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه .. وقوله تعالى : (( وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين )) .
لكن ماذا نقول لأمة تريد أن تأكل حتى التخمة ثم ترمي الفائض ، وتنفق أموالها بلا حساب ، وتستهلك فوق حاجتها ، قال تعالى : (( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم )) .
وقال تعالى : (( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئاً كبيراً )) ففي الآية تحريم قتل الأولاد خشية الفقر ، وتكفله سبحانه برزقنا ورزقهم ؛ لذا فإن فرية تحديد النسل معارضة للعقيدة الإسلامية ، ولمقاصد الإسلام وأهدافه .
يقولون إنه ما لم يتم تحديد النسل فسيؤدي هذا إلى انفجار سكاني ، وكأنهم يعلمون عن هذا الكون أكثر مما يعلمه الله ، والله سبحانه يقول : (( وما كنا عن الخلق غافلين )) ، ويقول سبحانه : (( إنا كل شيء خلقناه بقدر )) ويقول : (( وخلق كل شيء فقدره تقديراً )) .
وجد أعداؤنا أننا أكثر أمم الأرض تناسلاً ؛ فأزعجهم ذلك وأقلقهم ، وخافوا على مستقبلهم ؛ فأوحوا إلى عشاق مدنيتهم ومقلدتهم – أصحاب الفكر وحملة القلم – من بني جلدتنا أن يروجوا " أن سبب الضائقات الاقتصادية ينحصر في زيادة نسبة المواليد ، والمخرج تحديد النسل ، وإلا حل بنا الويل والثبور " .
والويل والثبور يحل بسبب الإسراف ، وكوننا أمة تأكل ولا تعمل ، تستهلك ولا تنتج، تهدر أموالها بلا فائدة ، وتضيع أوقاتها بلا انتاج وثمرة .
إن الفقر الذي تعانيه الأمة الإسلامية فقر إيمان وعمل وإبداع وإنتاج ، لا فقر أرزاق وأقوات .
وبدلاً من أن تئد الأمة الأنفس ، وتقطع النسل – وهذا مبدأ أناني – لم لا تجعل الأمة المبصرة الواعية من مواليدها في المستقبل مفاتيح إبداع ، وشعلة إنتاج ، ولبنة بناء ؛ تدفع بهم في عجلة التنمية ليكونوا عوناً لها ، لا عبئاً عليها .. وبهذا يكون النسل ثروة بشرية ، بل هو أغلى ثروة .
لقد أظهرت دراسات علمية أن العالم اليوم يعاني من نقص في النمو السكاني ، فهو لم يستغل إلا جانباً قليلاً من ثرواته ، وها هي بعض أمم الأرض اليوم تقذف بالفائض من انتاجها في البحار والمحيطات حتى لا تتأثر الأسعار بالهبوط ، فأين الخلل إذاً ؟ هل في زيادة النمو السكاني أو في أنانية الأعداء ؟
أيها المسلمون :
يحرص الإسلام على تكثير النسل ، قال صلى الله عليه وسلم : (( تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ )) أخرجه أبو داود من حديث مَعْقِل بن يسار .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ...
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه .
أما بعد :
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله .
ومن مظاهر الإسراف : الإسراف في الماء داخل البيوت وأفنيتها ، وفي الطرقات ، وغسيل العربات ، وريّ الحدائق ، وإهمال التوصيلات المنزلية إلى غير ذلك .
لقد غدا الماء مشكلة تقض المضاجع ، وتنذر بخطر عظيم ، وظاهرة نقص المياه التي تعاني منها المجتمعات أثر معصية ، ونتيجة انحراف ، قال تعالى : (( وألوا استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً )) ، ولقد بينت الشريعة الإسلامية أهمية المحافظة على المياه ، وعدم الإسراف فيها وتلويثها .
وأمام هذه المشكلة لا بد من تضامن المجتمع وتضافر الجهود ؛ لصون قطرات الماء وترشيد استهلاكه في المنزل والمزرعة والمصنع .
كما لا بد من تطبيق الجزاءات الرادعة عند المخالفة حفاظاً على حق الجيل والأجيال القادمة من عبث العابثين ، وإهمالهم ، وهم قلة ولله الحمد .
إن بعض فئات المجتمع لم تقدر المشكلة حق قدرها ؛ لذا لا بد من توعية شاملة للتعريف بحجم المشكلة بدءاً من الأسرة والمدرسة والجامعة والمسجد ووسائل الإعلام المختلفة .
المدينة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والوحي ينزل كانت ذات مياه وافرة ، وزروع وحدائق ، ومع هذا فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بصاع ويتوضأ بمد ، وسأل أعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوء ؟ فأراه ثلاثاً ثلاثاً ثم قال : (( هَذَا الْوُضُوءُ فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ أَوْ تَعَدَّى أَوْ ظَلَمَ )) أخرجه ابن ماجه وأحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده .
قال أبو الدرداء رضي الله عنه : (( اقتصد في الوضوء ، ولو كنت على شاطئ نهر )) .
وعن محارب بن دثار قال : (( كان يقال : من وهن علم الرجال ، ولوعه بالماء في الطهور )) .
عن إبراهيم التيمي قال : (( كان يقال : إن أول ما يبدأ الوسواس من قبل الطهور )) .
قال تعالى : (( فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً ، يرسل السماء عليكم مدراراً ، ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً )) .
ألا وصلوا وسلموا - عباد الله - على رسول الهدى ومعلم البشرية الخير ...
الخطبة الأولى
الحمد لله حث على التكاثر وزيادة النسل ، أحمده سبحانه وأشكره على كل خير وفضل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له .. له الخلق والأمر ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله حذّر من الإسراف ودعا إلى الاعتدال وتحكيم الدين والعقل ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ما أقبل ليل وانشق فجر .
أما بعد :
أوصيكم ونفسي بتقوى الله ، فإن التقوى سبيل النجاة وطريق الفلاح في الدارين ، قال تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون )) .
تميز هذا الدين بالمنهج الوسط ، ودعا إلى الاعتدال في كل شيء ، والتزام القصد في كل شؤون الحياة ، لا إفراط ولا تفريط .
أنكر الإسلام الإسراف الذي هو تجاوز الحد ، والإكثار ما لا ينبغي ، قال تعالى : ((ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين )). أنكر الإسلام الإسراف في العبادات من صيام وقيام ، فالذي يصوم ولا يفطر ، ويقوم ولا يرقد ، ولا يتزوج النساء ؛ يمارس سلوكاً يأباه الإسلام؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عمرو بن العاص مبيناً له منهج الاعتدال : (( فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَإِنَّ لِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَقًّا ، وَإِنَّ لِزَوْرِكَ عَلَيْكَ حَقًّا )) أخرجه البخاري .
إذا كان هذا في العبادة فكيف بالمباحات، قال ابن القيم – رحمه الله- : (( إن تجاوز الحد في كل أمر يضر بمصالح الدنيا والآخرة ، بل يفسد البدن أيضاً ؛ إذ إنه متى زادت أخلاطه عن حد العدل والوسط ذهب من صحته وقوته بحسب ذلك ، وهذا مطرد أيضاً في الأفعال الطبيعية كالنوم والسهر والأكل والشرب والجماع والحركة والرياضة أو الخلوة والمخالطة وغير ذلك )) انتهى .
إن الطعام غذاء للبدن ، وإذا تجاوز به المرء حد الاعتدال ، واستهلك منه فوق الحاجة؛ غدا مسبباً للأمراض ، ومضراً بالبدن ؛ خاصة حين تبلغ الشهوة المسعورة بالأكل إلى عادة الشره والبطنة ، فيصبح الأكل لذة يسعى لتحقيقها ، وغاية يطلب فيها كل ما يشتهي ؛ فيصاب بالكسل والتخمة والأمراض ، وقد يبلغ الإسراف حده إلى أغذية وأشربة مشبوهة أو محرمة ؛ ولهذا قال بعض السلف: (( جمع الله الطب كله في نصف آية : (( وكلوا واشربوا ولا تسرفوا )) )) .
وتحذير الإسلام من الإسراف – وتوجيه النفس إلى الاعتدال - حماية للعقل والدين من الشبع المفرط .. قال صلى الله عليه وسلم: (( مَا مَلأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لَا مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ )) أخرجه الترمذي وابن ماجه من حديث المقدام بن معد يكرب .
ومن مظاهر الإسراف تكدس خزانات الملابس بأفخر الثياب ، باهضة الأثمان ؛ سعياً وراء المظاهر والتقليد في ركض محموم ، واستسلام جموح لرغبة في الشراء ، لقد فعلت الآلة الإعلامية الدعائية فعلها في النفوس ؛ أججت المشاعر ، وسلبت العقول ، وحفّزت على الاقتناء ونهم الشراء ؛ حتى غدا الشراء لذة تغلب ، وغاية تأسر ولو لغير حاجة ، أو لغير منفعة ، بلغ الحال ببعضهم أن يستدين ؛ وهم بفعلهم هذا يلهثون لتحقيق معاني السعادة ، وهيهات .. فالسعادة ليست في ملابس زاهية ، ووسائل ترف ، وقصور مشيدة ، ومظاهر فارغة ؛ إنما هي رضا وقناعة تغمران النفس ، وتوفران الاستقرار والطمأنينة .
إن هذا النهم لن ينطفئ ، وهذا الركض لن يتوقف إلا بسلوك منهج الاعتدال الذي يحقق مقاصد الشريعة .
ومظاهر الإسراف واضحة جلية في ولائم المسلمين ومحافل نسائهم وحفلات زواجهم.. أدى هذا بكثير من الشباب إلى اليأس من الزواج المبكر ، تكاليف باهضة ، وشروط معقدة ، كيف يمكن الشاب من الزواج المبكر والمجتمع يضع بين يديه المعوقات ؛ من سرف لا حد له ، وشرط لا أصل له ، ومباهاة ما أنزل الله بها من سلطان .
ومن وسائل العلاج قيام فضلاء المجتمع وعقلائه بتحقيق القدوة الحسنة ، وضرب أروع الأمثلة في تسهيل أمور زواج أولادهم بمهور ميسورة ، وولائم معقولة ، وحفلات مشروعة ، ينأون بها عن المباهاة والمنافسة والمظهرية الجوفاء ، قال صلى الله عليه وسلم (( مَنْ سَنَّ فِي الْإِسْلَامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهَا وَأَجْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا بَعْدَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْءٌ )) أخرجه مسلم من حديث جرير بن عبد الله .
والإسراف في الإنفاق بتبديد الأموال في توافه وكماليات ، بل ومحظورات وموبقات ، وحين تغلب المسلم الشهوة الجامحة لا يستطيع منها فكاكاً ، ويفقد التحكم في هواه حتى لو وقع في الإفلاس ؛ فيبدد ماله وقد يضيع عياله ، قال تعالى : (( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوماً محسوراً )) .
الإسلام لا يمنع التمتع بالطيبات ، ولكنه يضع لها الضوابط ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلا مَخِيلَةٍ )) أخرجه البخاري .
قال السدي – رحمه الله – : (( لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء .. )) .
وقال سفيان - رحمه الله - : (( ما أنفقت في غير طاعة الله فهو إسراف ، وإن كان قليلاً )) .
ويبين ميزان الإنفاق ابن القيم في تفسير قوله تعالى : (( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا .. )) أي ليسوا بمبذرين في إنفاقهم ؛ فيصرفون فوق الحاجة، ولا بخلاء على أهليهم ؛ فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم، بل عدلاً خياراً ، وخير الأمور أوسطها ، لا هذا ولا هذا )) .
ومن الإسراف تحريم ما أحل الله ، قال تعالى : (( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق )) .. قال ابن عباس : (( لا تسرفوا في تحريم ما أحل الله )) .
ومن الإسراف تجاوز الحد المعقول في استهلاك الكهرباء ووسائل الاتصال الحديثة .
إخوة الإسلام :
للإسراف آثاره ، منها أنه معصية ، والمعصية تسبب سخط الله ، ومحق البركة ، وزوال النعمة ، ومنها المساءلة غداً بين يدي الله ، كما قال سبحانه : (( ثم لتسألن يومئذٍ عن النعيم)) .
والحرمان من محبة الله الذي يؤدي إلى القلق والاضطراب ، قال تعالى : (( إنه لا يحب المسرفين )) ، وقد يؤدي الإسراف إلى ذل الدين والاستقراض من الناس ؛ رغبة في مجاراة الآخرين ، وإرهاق نفسه فوق طاقتها ، ولا يخفى أن الإسلام نفّر من الدين ، قال صلى الله عليه وسلم : ((يُغْفَرُ لِلشَّهِيدِ كُلُّ ذَنْبٍ إِلَّا الدَّيْنَ )) أخرجه مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.
وكان الرسول صلى الله عليه وسلم في أول أمره يمتنع عن الصلاة على الميت إذا مات وعليه دين ولم يترك وفاءً في تركته ما لم يتكفل أحد من المسلمين بالوفاء بدينه .
إن هذه الأموال المهدرة بفعل الإسراف يمكن أن تكون لبنة بناء ، ومفتاح خير عميم لو استثمرت في تشييد مرافق للمجتمع ، وفي مصالح الأمة .. مستوصفات خيرية تقام ، ومدارس وقفية تؤسس ، وملاجئ ومؤسسات تبنى ، ودعم لجمعيات تحفيظ القرآن .
الإسراف يؤدي إلى غلاء الأسعار ، وضعف الإنتاج ، وتقليل الموارد ، وإنهاك الاقتصاد .
لكننا نسمع بين الفينة والأخرى أصواتاً ، ونقرأ كتابات تعكس الحقائق ، وتقلب المفاهيم ، تدعو إلى تحديد النسل ، وتجعل النمو السكاني وكثرة النسل سبباً رئيساً للفقر وقلة الموارد ، وضعف الاقتصاد ، ولو لفظ هؤلاء مفاهيمهم الغربية المظلمة ، وتأملوا كتاب ربهم لوجدوا قوله تعالى : (( وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ، ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين )) .. وقوله صلى الله عليه وسلم : (( فَإِنَّ نَفْسًا لَنْ تَمُوتَ حَتَّى تَسْتَوْفِيَ رِزْقَهَا وَإِنْ أَبْطَأَ عَنْهَا فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَجْمِلُوا فِي الطَّلَبِ )) أخرجه ابن ماجه من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه .. وقوله تعالى : (( وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين )) .
لكن ماذا نقول لأمة تريد أن تأكل حتى التخمة ثم ترمي الفائض ، وتنفق أموالها بلا حساب ، وتستهلك فوق حاجتها ، قال تعالى : (( ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم )) .
وقال تعالى : (( ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطئاً كبيراً )) ففي الآية تحريم قتل الأولاد خشية الفقر ، وتكفله سبحانه برزقنا ورزقهم ؛ لذا فإن فرية تحديد النسل معارضة للعقيدة الإسلامية ، ولمقاصد الإسلام وأهدافه .
يقولون إنه ما لم يتم تحديد النسل فسيؤدي هذا إلى انفجار سكاني ، وكأنهم يعلمون عن هذا الكون أكثر مما يعلمه الله ، والله سبحانه يقول : (( وما كنا عن الخلق غافلين )) ، ويقول سبحانه : (( إنا كل شيء خلقناه بقدر )) ويقول : (( وخلق كل شيء فقدره تقديراً )) .
وجد أعداؤنا أننا أكثر أمم الأرض تناسلاً ؛ فأزعجهم ذلك وأقلقهم ، وخافوا على مستقبلهم ؛ فأوحوا إلى عشاق مدنيتهم ومقلدتهم – أصحاب الفكر وحملة القلم – من بني جلدتنا أن يروجوا " أن سبب الضائقات الاقتصادية ينحصر في زيادة نسبة المواليد ، والمخرج تحديد النسل ، وإلا حل بنا الويل والثبور " .
والويل والثبور يحل بسبب الإسراف ، وكوننا أمة تأكل ولا تعمل ، تستهلك ولا تنتج، تهدر أموالها بلا فائدة ، وتضيع أوقاتها بلا انتاج وثمرة .
إن الفقر الذي تعانيه الأمة الإسلامية فقر إيمان وعمل وإبداع وإنتاج ، لا فقر أرزاق وأقوات .
وبدلاً من أن تئد الأمة الأنفس ، وتقطع النسل – وهذا مبدأ أناني – لم لا تجعل الأمة المبصرة الواعية من مواليدها في المستقبل مفاتيح إبداع ، وشعلة إنتاج ، ولبنة بناء ؛ تدفع بهم في عجلة التنمية ليكونوا عوناً لها ، لا عبئاً عليها .. وبهذا يكون النسل ثروة بشرية ، بل هو أغلى ثروة .
لقد أظهرت دراسات علمية أن العالم اليوم يعاني من نقص في النمو السكاني ، فهو لم يستغل إلا جانباً قليلاً من ثرواته ، وها هي بعض أمم الأرض اليوم تقذف بالفائض من انتاجها في البحار والمحيطات حتى لا تتأثر الأسعار بالهبوط ، فأين الخلل إذاً ؟ هل في زيادة النمو السكاني أو في أنانية الأعداء ؟
أيها المسلمون :
يحرص الإسلام على تكثير النسل ، قال صلى الله عليه وسلم : (( تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الْأُمَمَ )) أخرجه أبو داود من حديث مَعْقِل بن يسار .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ...
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه وإخوانه .
أما بعد :
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله .
ومن مظاهر الإسراف : الإسراف في الماء داخل البيوت وأفنيتها ، وفي الطرقات ، وغسيل العربات ، وريّ الحدائق ، وإهمال التوصيلات المنزلية إلى غير ذلك .
لقد غدا الماء مشكلة تقض المضاجع ، وتنذر بخطر عظيم ، وظاهرة نقص المياه التي تعاني منها المجتمعات أثر معصية ، ونتيجة انحراف ، قال تعالى : (( وألوا استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقاً )) ، ولقد بينت الشريعة الإسلامية أهمية المحافظة على المياه ، وعدم الإسراف فيها وتلويثها .
وأمام هذه المشكلة لا بد من تضامن المجتمع وتضافر الجهود ؛ لصون قطرات الماء وترشيد استهلاكه في المنزل والمزرعة والمصنع .
كما لا بد من تطبيق الجزاءات الرادعة عند المخالفة حفاظاً على حق الجيل والأجيال القادمة من عبث العابثين ، وإهمالهم ، وهم قلة ولله الحمد .
إن بعض فئات المجتمع لم تقدر المشكلة حق قدرها ؛ لذا لا بد من توعية شاملة للتعريف بحجم المشكلة بدءاً من الأسرة والمدرسة والجامعة والمسجد ووسائل الإعلام المختلفة .
المدينة في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم والوحي ينزل كانت ذات مياه وافرة ، وزروع وحدائق ، ومع هذا فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل بصاع ويتوضأ بمد ، وسأل أعرابي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوضوء ؟ فأراه ثلاثاً ثلاثاً ثم قال : (( هَذَا الْوُضُوءُ فَمَنْ زَادَ عَلَى هَذَا فَقَدْ أَسَاءَ أَوْ تَعَدَّى أَوْ ظَلَمَ )) أخرجه ابن ماجه وأحمد من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده .
قال أبو الدرداء رضي الله عنه : (( اقتصد في الوضوء ، ولو كنت على شاطئ نهر )) .
وعن محارب بن دثار قال : (( كان يقال : من وهن علم الرجال ، ولوعه بالماء في الطهور )) .
عن إبراهيم التيمي قال : (( كان يقال : إن أول ما يبدأ الوسواس من قبل الطهور )) .
قال تعالى : (( فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفاراً ، يرسل السماء عليكم مدراراً ، ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهاراً )) .
ألا وصلوا وسلموا - عباد الله - على رسول الهدى ومعلم البشرية الخير ...
Tidak ada komentar:
Posting Komentar