=الأسوة في الأسرة
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي جعل المودة والرحمة بين الأزواج ورغب في بناء الأسرة ، أحمده سبحانه وأشكره على ما أسبغ من خيرٍ ونعمة ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل : (( إنما المؤمنون إخوه )) ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله دعا إلى الله بالحكمة وكان بأفعاله وأقواله أفضل قدوة ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه خير آل وأسوة.
أما بعد :
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله ، قال تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسملون )) .
الأسرة المسلمة نواة المجتمع الصالح ، فصلاح الفرد من صلاح الأسرة ، وصلاح المجتمع بأسره – كذلك – من صلاح الأسرة .
اهتم الإسلام اهتماماً لا مزيد عليه بشأن الأسرة وأسس تكوينها ، وأسباب دوام ترابطها ؛ لتبقى الأسرة المسلمة شامخة يسودها الوئام وترفرف عليها المحبة ، وتتلاقى فيها مشاعر المودة والرحمة ، قال تعالى : (( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً وجعل بينكم مودة ورحمة)) ، ولتعيش الأسرة المسلمة وحدة شعور ، ووحدة عواطف ، قال تعالى: (( هن لباس لكم وأنتم لباس لهن )) .
بيّن القرآن للأزواج أن كلاً منهما ضروري للآخر ومتمم له ، قال تعالى : (( هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها)) ، ولا يتصور أن تقوم حياة إنسانية على استقامة إذا هُدمت الأسرة .. والذين ينادون بهدم نظام الأسرة لا يريدون بالبشرية خيراً ، وقد كانت دعوتهم – ولا زالت – صوتاً نشازاً على مر التاريخ .
تقوم الأسرة على أساس التفاهم .. تمارس أعمالها بالتشاور .. وتبني حياتها على التراضي .. هذا بيان قرآني بليغ يجلي هذه المبادئ السامية ؛ فعند رضاع الأولاد وفطامهم ولو بعد الإنفصال ، يقول تعالى : (( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة )) إلى قوله : (( فإن أرادا فصالاً عن تراضٍ منهما وتشاور فلا جناح عليهما )) .
الأسرة التي تروم السعادة وتبحث عن الاستقرار ؛ تني حياتها على أسس راسخة أبرزها : رعاية واحترام الحقوق بين الزوجين ، والمعاشرة بالمعروف وفتح آفاق واسعة من المشاعر الفياضة ليتدفق نبع المحبة وتقوى الرابطة .. وهنا يجد الأزواج السكن النفسي الذي نص عليه القرآن .. وبمثل هذا الرسوخ تؤمن الأسرة من التصدع ، وإذا نشأ خلاف فإن المحبة الصادقة ستذيبه .
إن الحكيمَ الخبيرَ عَلِمَ أن النفس قد تثور فيها أحياناً في أجواء الخلاف مشاعر الكراهية؛ فيجد الشيطان ضالته المنشودة لهدم كيان الأسرة .. فكان التوجيه القرآني لتنقية المشاعر ، وليعود للحياة صفاؤها ، وللأسرة بهاؤها ، قال تعالى : (( وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً )) .
ولذلك قال الإمام ابن كثير في تفسيره لهذه الآية : (( أي فعسى أن يكون صبركم في إمساكهن مع الكراهية فيه خير كثير لكم في الدنيا والآخرة )) .
قد يجني الجاهل على نفسه ، ويدمر حياته بطوعه واختياره حين يستبدل المحبة والمودة والرحمة بالعناد والتحدي .. وهذا نذير شؤم ، وبداية تصدع .
لا يدمر الأسرة شيء كما يدمرها العناد والتحدي .. فالخلافات الصغيرة تصبح بالعناد كبيرة ، والخلافات الكبيرة تغدو باللين والصبر صغيرة .. كم نسمعُ ونشاهدُ تصدعَ أسرٍ وهي في مهدها ولما يكتمل بناؤها نتيجة لهذه الاعتبارات .
وقد قرر كثير من الباحثين أن التفكك الأسري سبب رئيس في انحراف الأحداث وسلوكهم طريق الجنوح ؛ ولهذا فإن الأسرة مطالبة بحماية نفسها قبل حدوث الشقاق وتحقيق الاستقرار الأسري ، ولا يخفى أن الحياة لا تصفو دائماً ، بل هي معرضة للسراء والضراء .
كل شيء في هذا الكون مهما صغر شأنه له حكمة ، ويؤدي وظيفة .. فما رسالة الأسرة المسلمة ؟
للأسرة في المجتمع المسلم وظائف أهمها :
إقامة حدود الله ، وتحقيق شرعه ومرضاته بتأسيس البيت المسلم ، قال تعالى : (( فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به )) .
تكثير نسل الأمة الإسلامية : قال صلى الله عليه وسلم : (( النِّكَاحُ مِنْ سُنَّتِي ، فَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِسُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ، وَتَزَوَّجُوا فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الأُمَمْ )) أخرجه ابن ماجه من حديث عائشة رضي الله عنها .. تكثير النسل قوة للأمة ، وعزة وحسن ذكر بعد الموت .. ودعاة تحديد النسل لا يرمون الخير للأمة ، وحججهم الواهية تدل على أنهم قد أصيبوا بانهزاميةٍ نفسية ، مع ضعف يقينٍ وتوكل .
إعداد النشء المسلم وتربيته من وظائف الأسرة ، بل هي المدرسة الأولى التي يتلقى الولد في جنباتها أصول عقيدته ، ومبادئ إسلامه ، وقيمه وتعاليمه ، ولا يقوم مقامها دور الرعاية والخادمات ؛ فالطفل الذي يرضع حليب أمه ويرضع معه حنانها ودفئها لن يساويه ذلك الطفل الذي يعيش بين أكناف المربيات والخادمات دون عطف ولا حنان ولا مشاعر .
الأسرة المسلمة مسئولة أمام الله عن تنشئة الأبناء على الإسلام ، وغرس عبادة الله والالتزام بمنهجه في حياتهم ..
فهل تمارس أسُرُنا اليوم رسالتها التربوية ؟ هل هي من القوة والمتانة والرسوخ ما يؤهلها لمقاومة العلمنة والتغريب ؟ هل يجلس أفراد الأسرة على موائد القرآن ؟ أم على مشاهد العصيان ؟! هلى يتلقى أولادنا في بيوتنا التذكرة النافعة والعظة الرشيدة والآداب الرفيعة ؟
إن أي تقصير أو إخفاق في قيام الأسرة بدورها التربوي ستكون له عواقبُ وخيمةُ على سلوك الأبناء والبنات ، ومن ثم على المجتمع في بنائه وفكره وأمنه .
القيام بالواجبات الأسرية أمانة سيسأل عنها الزوجان ؛ كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال : (( كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا )) أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما .. ومن الأمانة تطهير البيت من المنكرات ، وإلزام أهل البيت بالفرائض والواجبات ، وحثّهم على الفضائل والمستحبات .
من الأهداف الرئيسة للأسرة إقامة علاقة ورابطة قوية بين أبنائها والمسجد .. ذلك أن المسجد في حياة المسلم جوهري وأساس ، والتردد على المسجد عمل تربوي جليل القدر ، عميق الأثر ، يغرس في النفوس الفضائل والقيم والأداب .
لقد استطاعت الأسرة المسلمة التي قامت على الإيمان بالله ، وتمسكت بأخلاق الإسلام، وتعلقت بالمسجد .. استطاعت بنور القرآن أن تخرج للحياة ؛ أبطالاً شجعاناً، وعلماء أفذاذاً ، وعباداً زهاداً، وقادةً مخلصين ، ورجالاً صالحين ، ونساءً عابدات .. كتبوا صفحة تأريخ مجيدة .
وهي اليوم تواجه حملة شرسة لزعزعة أركانها ، وإلغاء كيانها بفك رباط الأسرة ، وإفساد أخلاق المرأة ، ونبذ قيم الأسرة ، والدعوة إلى العري والاختلاط والإباحية .. وإذا تحطمت الأسرة هل يبقى ثمّ أمة؟ وإن بقيت فهل ستكون إلا على هامش الحياة ؟!
لقد تفككت عرى الأسرة في بعض بلاد المسلمين نتيجة السقوط في حمأة التقليد للغرب ، والإنسياق الأعمى وراء كل نحلة ترد منه ، وكثرت حالات الطلاق ، وعزف كثير من الشباب عن الزواج .. تبع ذلك انطلاق محموم وراء الشهوات البهيمية .
إن الدور القادم دور خطير ومؤثر ؛ فقد أسهمت التغيرات الاجتماعية في تقليص دور الأسرة ، واستولت أجهزة البث الفضائي وغيرها على وقت الأسرة ، وأثرت في مسارها ، وخلخلت قيمها ؛ ففقدت الأسرة – في بعض المواقع – بعض تأثيرها ، وشيئاً من فاعليتها.. إن هذه الأجهزة وغيرها زاحمت الأسرة في توجيه الأبناء والبنات داخل المعقل الحصين بجاذبية مدروسة ، وغزوٍ مستور ومكشوف ؛ لتقطع صلتهم بأمتهم، وتضعف عقيدتهم ، وتنسف غيرتهم .. لكن المؤلم حقاً أن بعض الأسر قد تخلت عن دورها في مهمة التربية العقدية والفكرية ، وأسلمت أولادها لأجهزة البث وغيرها تصنع ما يحلو لها من هدم ومسخ.
إخوة الإسلام :
بناء الأسرة على الوجه السليم الرشيد ليس أمراً سهلاً ، بل هو واجب جليل يحتاج إلى إعداد واستعداد، كما أن الحياة الزوجية ليست لهواً ولا لعباً، وليست مجرد تسلية أو استمتاع ، بل هي تبعات ومسئوليات وواجبات ، من تعرض لها دون صلاح أو قدرة كان جاهلاً غافلاً عن حكمة التشريع الإلهي ، ومن أساء استعمالها أو ضيع عامداً حقوقها استحق غضب الله وعقابه ؛ ولذلك ينبغي أن يكون الإنسان صالحاً لهذه الحياة ، قادراً على النهوض بتبعاتها .. قال تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً )) .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ...
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوى ، والذي قدّر فهدى ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي الأعلى ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله (( ما ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى )) ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أهل الخير والوفاء .
أما بعد :
فاتقوا الله حق التقوى ، قال تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً )) .
إن حياة الأسرة حياة عمل ، وللحياة أعباؤها وتكاليفها ؛ لذا فهي تحتاج إلى رُبان يوجه حركتها ، ويشرف على سلامتها .. هذه القيادةُ يسميها القرآن قوامة وهي من نصيب الرجل ، والرئاسة ليست للاستعباد والتسخير ، وإنما هي رئاسة إشراف ورعاية ، ولا تعني إلغاء شخصية الزوجة وإهدار إرادتها أو طمس معالم المودة والألفة في الأسرة.
لقد هيأ الله المرأة لوظائف وأهلها لأدائها ، وهيأ الرجل لوظائف وأهله لأدائها بحكم التكوين الجسدي والنفسي والاجتماعي ؛ فإذا تحولت القوامة من الرجل إلى المرأة كلفت المرأة ما لا تطيق وانحرفت الأسرة عن مسارها .. إن سلب الرجل قوامته على زوجته وأسرته ليعرض الأسرة لمتاعب ومشكلات .. إن هناك فروقاً بين الرجل والمرأة تجعل كلاً منهما صالحاً لأداء وظيفته التي هيء لها دون سواها .. وإن أي انتقاص من مفردات هذه القوامة سيضر بالأسرة ثم بالمجتمع كله ، والذين ينادون بسلب الرجل قوامته إنما هم أصحاب هوى وهوس ، وهم سفهاء لأنهم يتحدون شرع الله تعالى .
إن القوامة تعني أن رب الأسرة مسؤول عن كل ما يوفر سلامة الأبدان والأديان ، يجنب الأسرة مصارع السوء وطرق الانحراف والرذيلة، يعطي من نفسه القدوة المثلى في الوقوف عند حدود الله ، وتعظيم شعائر دينه ، مع سعة الصدر وحسن الخلق .. فهو كالراعي الذي يحمي الحمى .
رب الأسرة مطالب بالتوازن بين مهام العمل والعبادة والتفرغ لمهام الأسرة ؛ ليعطي كل ذي حقٍ حقه.. حق الزوجة .. رعاية الأسرة.. وإذا كان رب الأسرة عاجزاً عن توفير الوقت الذي يجتمع فيه مع نفسه أو بأفراد أسرته يوجههم ويحدثهم ويستمع إليهم .. فسيندم ولات حين مندم ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يا عبدالله بن عمرو : بَلَغَنِي أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ .. فَلَا تَفْعَلْ ؛ فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَظًّا ، وَلِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَظًّا ، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَظًّا.. صُمْ وَأَفْطِرْ ، صُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَذَلِكَ صَوْمُ الدَّهْرِ )) أخرجه البخاري ومسلم .
ألا وصلوا وسلموا - عباد الله - على رسول الهدى ومعلم البشرية الخير ...
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي جعل المودة والرحمة بين الأزواج ورغب في بناء الأسرة ، أحمده سبحانه وأشكره على ما أسبغ من خيرٍ ونعمة ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له القائل : (( إنما المؤمنون إخوه )) ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله دعا إلى الله بالحكمة وكان بأفعاله وأقواله أفضل قدوة ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه خير آل وأسوة.
أما بعد :
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله ، قال تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسملون )) .
الأسرة المسلمة نواة المجتمع الصالح ، فصلاح الفرد من صلاح الأسرة ، وصلاح المجتمع بأسره – كذلك – من صلاح الأسرة .
اهتم الإسلام اهتماماً لا مزيد عليه بشأن الأسرة وأسس تكوينها ، وأسباب دوام ترابطها ؛ لتبقى الأسرة المسلمة شامخة يسودها الوئام وترفرف عليها المحبة ، وتتلاقى فيها مشاعر المودة والرحمة ، قال تعالى : (( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً وجعل بينكم مودة ورحمة)) ، ولتعيش الأسرة المسلمة وحدة شعور ، ووحدة عواطف ، قال تعالى: (( هن لباس لكم وأنتم لباس لهن )) .
بيّن القرآن للأزواج أن كلاً منهما ضروري للآخر ومتمم له ، قال تعالى : (( هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها)) ، ولا يتصور أن تقوم حياة إنسانية على استقامة إذا هُدمت الأسرة .. والذين ينادون بهدم نظام الأسرة لا يريدون بالبشرية خيراً ، وقد كانت دعوتهم – ولا زالت – صوتاً نشازاً على مر التاريخ .
تقوم الأسرة على أساس التفاهم .. تمارس أعمالها بالتشاور .. وتبني حياتها على التراضي .. هذا بيان قرآني بليغ يجلي هذه المبادئ السامية ؛ فعند رضاع الأولاد وفطامهم ولو بعد الإنفصال ، يقول تعالى : (( والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة )) إلى قوله : (( فإن أرادا فصالاً عن تراضٍ منهما وتشاور فلا جناح عليهما )) .
الأسرة التي تروم السعادة وتبحث عن الاستقرار ؛ تني حياتها على أسس راسخة أبرزها : رعاية واحترام الحقوق بين الزوجين ، والمعاشرة بالمعروف وفتح آفاق واسعة من المشاعر الفياضة ليتدفق نبع المحبة وتقوى الرابطة .. وهنا يجد الأزواج السكن النفسي الذي نص عليه القرآن .. وبمثل هذا الرسوخ تؤمن الأسرة من التصدع ، وإذا نشأ خلاف فإن المحبة الصادقة ستذيبه .
إن الحكيمَ الخبيرَ عَلِمَ أن النفس قد تثور فيها أحياناً في أجواء الخلاف مشاعر الكراهية؛ فيجد الشيطان ضالته المنشودة لهدم كيان الأسرة .. فكان التوجيه القرآني لتنقية المشاعر ، وليعود للحياة صفاؤها ، وللأسرة بهاؤها ، قال تعالى : (( وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً )) .
ولذلك قال الإمام ابن كثير في تفسيره لهذه الآية : (( أي فعسى أن يكون صبركم في إمساكهن مع الكراهية فيه خير كثير لكم في الدنيا والآخرة )) .
قد يجني الجاهل على نفسه ، ويدمر حياته بطوعه واختياره حين يستبدل المحبة والمودة والرحمة بالعناد والتحدي .. وهذا نذير شؤم ، وبداية تصدع .
لا يدمر الأسرة شيء كما يدمرها العناد والتحدي .. فالخلافات الصغيرة تصبح بالعناد كبيرة ، والخلافات الكبيرة تغدو باللين والصبر صغيرة .. كم نسمعُ ونشاهدُ تصدعَ أسرٍ وهي في مهدها ولما يكتمل بناؤها نتيجة لهذه الاعتبارات .
وقد قرر كثير من الباحثين أن التفكك الأسري سبب رئيس في انحراف الأحداث وسلوكهم طريق الجنوح ؛ ولهذا فإن الأسرة مطالبة بحماية نفسها قبل حدوث الشقاق وتحقيق الاستقرار الأسري ، ولا يخفى أن الحياة لا تصفو دائماً ، بل هي معرضة للسراء والضراء .
كل شيء في هذا الكون مهما صغر شأنه له حكمة ، ويؤدي وظيفة .. فما رسالة الأسرة المسلمة ؟
للأسرة في المجتمع المسلم وظائف أهمها :
إقامة حدود الله ، وتحقيق شرعه ومرضاته بتأسيس البيت المسلم ، قال تعالى : (( فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به )) .
تكثير نسل الأمة الإسلامية : قال صلى الله عليه وسلم : (( النِّكَاحُ مِنْ سُنَّتِي ، فَمَنْ لَمْ يَعْمَلْ بِسُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي ، وَتَزَوَّجُوا فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمْ الأُمَمْ )) أخرجه ابن ماجه من حديث عائشة رضي الله عنها .. تكثير النسل قوة للأمة ، وعزة وحسن ذكر بعد الموت .. ودعاة تحديد النسل لا يرمون الخير للأمة ، وحججهم الواهية تدل على أنهم قد أصيبوا بانهزاميةٍ نفسية ، مع ضعف يقينٍ وتوكل .
إعداد النشء المسلم وتربيته من وظائف الأسرة ، بل هي المدرسة الأولى التي يتلقى الولد في جنباتها أصول عقيدته ، ومبادئ إسلامه ، وقيمه وتعاليمه ، ولا يقوم مقامها دور الرعاية والخادمات ؛ فالطفل الذي يرضع حليب أمه ويرضع معه حنانها ودفئها لن يساويه ذلك الطفل الذي يعيش بين أكناف المربيات والخادمات دون عطف ولا حنان ولا مشاعر .
الأسرة المسلمة مسئولة أمام الله عن تنشئة الأبناء على الإسلام ، وغرس عبادة الله والالتزام بمنهجه في حياتهم ..
فهل تمارس أسُرُنا اليوم رسالتها التربوية ؟ هل هي من القوة والمتانة والرسوخ ما يؤهلها لمقاومة العلمنة والتغريب ؟ هل يجلس أفراد الأسرة على موائد القرآن ؟ أم على مشاهد العصيان ؟! هلى يتلقى أولادنا في بيوتنا التذكرة النافعة والعظة الرشيدة والآداب الرفيعة ؟
إن أي تقصير أو إخفاق في قيام الأسرة بدورها التربوي ستكون له عواقبُ وخيمةُ على سلوك الأبناء والبنات ، ومن ثم على المجتمع في بنائه وفكره وأمنه .
القيام بالواجبات الأسرية أمانة سيسأل عنها الزوجان ؛ كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم فقال : (( كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، الْإِمَامُ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ فِي أَهْلِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ فِي بَيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا )) أخرجه البخاري ومسلم من حديث ابن عمر رضي الله عنهما .. ومن الأمانة تطهير البيت من المنكرات ، وإلزام أهل البيت بالفرائض والواجبات ، وحثّهم على الفضائل والمستحبات .
من الأهداف الرئيسة للأسرة إقامة علاقة ورابطة قوية بين أبنائها والمسجد .. ذلك أن المسجد في حياة المسلم جوهري وأساس ، والتردد على المسجد عمل تربوي جليل القدر ، عميق الأثر ، يغرس في النفوس الفضائل والقيم والأداب .
لقد استطاعت الأسرة المسلمة التي قامت على الإيمان بالله ، وتمسكت بأخلاق الإسلام، وتعلقت بالمسجد .. استطاعت بنور القرآن أن تخرج للحياة ؛ أبطالاً شجعاناً، وعلماء أفذاذاً ، وعباداً زهاداً، وقادةً مخلصين ، ورجالاً صالحين ، ونساءً عابدات .. كتبوا صفحة تأريخ مجيدة .
وهي اليوم تواجه حملة شرسة لزعزعة أركانها ، وإلغاء كيانها بفك رباط الأسرة ، وإفساد أخلاق المرأة ، ونبذ قيم الأسرة ، والدعوة إلى العري والاختلاط والإباحية .. وإذا تحطمت الأسرة هل يبقى ثمّ أمة؟ وإن بقيت فهل ستكون إلا على هامش الحياة ؟!
لقد تفككت عرى الأسرة في بعض بلاد المسلمين نتيجة السقوط في حمأة التقليد للغرب ، والإنسياق الأعمى وراء كل نحلة ترد منه ، وكثرت حالات الطلاق ، وعزف كثير من الشباب عن الزواج .. تبع ذلك انطلاق محموم وراء الشهوات البهيمية .
إن الدور القادم دور خطير ومؤثر ؛ فقد أسهمت التغيرات الاجتماعية في تقليص دور الأسرة ، واستولت أجهزة البث الفضائي وغيرها على وقت الأسرة ، وأثرت في مسارها ، وخلخلت قيمها ؛ ففقدت الأسرة – في بعض المواقع – بعض تأثيرها ، وشيئاً من فاعليتها.. إن هذه الأجهزة وغيرها زاحمت الأسرة في توجيه الأبناء والبنات داخل المعقل الحصين بجاذبية مدروسة ، وغزوٍ مستور ومكشوف ؛ لتقطع صلتهم بأمتهم، وتضعف عقيدتهم ، وتنسف غيرتهم .. لكن المؤلم حقاً أن بعض الأسر قد تخلت عن دورها في مهمة التربية العقدية والفكرية ، وأسلمت أولادها لأجهزة البث وغيرها تصنع ما يحلو لها من هدم ومسخ.
إخوة الإسلام :
بناء الأسرة على الوجه السليم الرشيد ليس أمراً سهلاً ، بل هو واجب جليل يحتاج إلى إعداد واستعداد، كما أن الحياة الزوجية ليست لهواً ولا لعباً، وليست مجرد تسلية أو استمتاع ، بل هي تبعات ومسئوليات وواجبات ، من تعرض لها دون صلاح أو قدرة كان جاهلاً غافلاً عن حكمة التشريع الإلهي ، ومن أساء استعمالها أو ضيع عامداً حقوقها استحق غضب الله وعقابه ؛ ولذلك ينبغي أن يكون الإنسان صالحاً لهذه الحياة ، قادراً على النهوض بتبعاتها .. قال تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً )) .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ...
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوى ، والذي قدّر فهدى ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له العلي الأعلى ، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله (( ما ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى )) ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أهل الخير والوفاء .
أما بعد :
فاتقوا الله حق التقوى ، قال تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً )) .
إن حياة الأسرة حياة عمل ، وللحياة أعباؤها وتكاليفها ؛ لذا فهي تحتاج إلى رُبان يوجه حركتها ، ويشرف على سلامتها .. هذه القيادةُ يسميها القرآن قوامة وهي من نصيب الرجل ، والرئاسة ليست للاستعباد والتسخير ، وإنما هي رئاسة إشراف ورعاية ، ولا تعني إلغاء شخصية الزوجة وإهدار إرادتها أو طمس معالم المودة والألفة في الأسرة.
لقد هيأ الله المرأة لوظائف وأهلها لأدائها ، وهيأ الرجل لوظائف وأهله لأدائها بحكم التكوين الجسدي والنفسي والاجتماعي ؛ فإذا تحولت القوامة من الرجل إلى المرأة كلفت المرأة ما لا تطيق وانحرفت الأسرة عن مسارها .. إن سلب الرجل قوامته على زوجته وأسرته ليعرض الأسرة لمتاعب ومشكلات .. إن هناك فروقاً بين الرجل والمرأة تجعل كلاً منهما صالحاً لأداء وظيفته التي هيء لها دون سواها .. وإن أي انتقاص من مفردات هذه القوامة سيضر بالأسرة ثم بالمجتمع كله ، والذين ينادون بسلب الرجل قوامته إنما هم أصحاب هوى وهوس ، وهم سفهاء لأنهم يتحدون شرع الله تعالى .
إن القوامة تعني أن رب الأسرة مسؤول عن كل ما يوفر سلامة الأبدان والأديان ، يجنب الأسرة مصارع السوء وطرق الانحراف والرذيلة، يعطي من نفسه القدوة المثلى في الوقوف عند حدود الله ، وتعظيم شعائر دينه ، مع سعة الصدر وحسن الخلق .. فهو كالراعي الذي يحمي الحمى .
رب الأسرة مطالب بالتوازن بين مهام العمل والعبادة والتفرغ لمهام الأسرة ؛ ليعطي كل ذي حقٍ حقه.. حق الزوجة .. رعاية الأسرة.. وإذا كان رب الأسرة عاجزاً عن توفير الوقت الذي يجتمع فيه مع نفسه أو بأفراد أسرته يوجههم ويحدثهم ويستمع إليهم .. فسيندم ولات حين مندم ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( يا عبدالله بن عمرو : بَلَغَنِي أَنَّكَ تَصُومُ النَّهَارَ وَتَقُومُ اللَّيْلَ .. فَلَا تَفْعَلْ ؛ فَإِنَّ لِجَسَدِكَ عَلَيْكَ حَظًّا ، وَلِعَيْنِكَ عَلَيْكَ حَظًّا ، وَإِنَّ لِزَوْجِكَ عَلَيْكَ حَظًّا.. صُمْ وَأَفْطِرْ ، صُمْ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فَذَلِكَ صَوْمُ الدَّهْرِ )) أخرجه البخاري ومسلم .
ألا وصلوا وسلموا - عباد الله - على رسول الهدى ومعلم البشرية الخير ...
Tidak ada komentar:
Posting Komentar